كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءً عندما سمع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الانفجار الأول الذي هز صداه كامل أرجاء ملعب فرنسا، قبل التاسعة والربع بدقائق دوى الانفجار الثاني وحينها أُعلِم الرئيس الفرنسي بالطبيعة الهجومية للانفجارين وانتقل للمركز الأمني داخل الملعب وهناك أُخبِر بالهجوم الواقع في الدائرة الباريسية الحادية عشر والّذي استهدف مسرح الباتاكلان الّذي كان يحتضن حفلاً لإحدى الفرق الموسيقية، عندئذ اتّخِذ القرار بإجلاء الرئيس الفرنسي من الملعب قبل غلقه من الخارج لتبقى الجماهير محتجزة بالداخل لأكثر من أربع ساعات مخافة أن تكون هناك هجمات أخرى محتملة بانتظارهم.
لم تقتصر هجمات باريس على ستاد دو فرانس ومسرح الباتاكلان، فعدد من المطاعم والحانات في الدائرتين العاشرة والحادية عشر كانوا هدفًا لنيران المسلّحين التي أوقعت العشرات بين قتيل وجريح، وفي حصيلة أولية قالت السلطات الفرنسية إن الهجمات أوقعت على الأقل 120 قتيلاً وأكثر من 200 جريح نصفهم تقريبًا في حالة حرجة، العدد الأكبر من الضحايا سقط داخل مسرح الباتاكلان الذّي كان مكتظًا بالجماهير، ولعل مقطع الفيديو الذي صوره الصحفي بجريدة لوموند دانيال بساني والذي كان قريبا من إحدى بوابات المسرح يعبّر بوضوح عن هول ما حدث، فرار جماعي لمن كانوا بالداخل وجثث متناثرة أمام البوابة وأحد الأشخاص يحاول بكل ما أوتي من قوة جر صديقه الجريح بعيدًا محاولاً إسعافه وفتاتان عالقتان بإحدى شرفات المسرح وتتوسلان المساعدة.
كان المشهد صادمًا ومأساويًا بكل ما للكلمة من معنى، وقد ظهرت معالم هذه الصدمة بوضوح على الرئيس الفرنسي وهو يتلو كلمته التي أعلن فيها عن فرض حالة الطوارئ بكامل التراب الفرنسي وعن إغلاق جميع المنافذ الحدودية البرية، إجراءات وُصِفت بالتاريخية إذ لم تُفرض حالة الطوارئ بكامل أرجاء فرنسا منذ حرب الجزائر.
أن تستهدف ست هجمات منسقة ومتزامنة أماكن من أكثر الأماكن ازدحامًا في باريس هو تحد غير مسبوق للدولة الفرنسية؛ أحد هذه الأماكن “ملعب سان دوني” كان يتواجد داخله الرئيس الفرنسي وهو ما يضفي على هذه الهجمات طابع الجرأة والاستخفاف بالدولة وبأجهزتها
هجمات باريس لن تتوقف انعكاساتها عند الداخل الفرنسي فأثر هذه الاعتداءات سيمس بشكل جوهري السياسة الخارجية الفرنسية؛ داخليًا سيتم تشديد الإجراءات الأمنية ومن الممكن أن يمس هذا من الحريات الشخصية للمواطنين الفرنسيين وللأجانب من أصل عربي وستتصاعد حملات الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين وسيتقاطع كل هذا مع تنامي شعبية اليمين الفرنسي في نتائج سبر الآراء الأخيرة.
الإعلام الفرنسي من المتوقع أن يطالب باستقالة وزير الداخلية “مانويل فالس” لأن حدوث ست هجمات منسقة ومتزامنة ودموية أحدها بالأحزمة الناسفة مع العدد الكبير للضحايا ليس إلا تعبيرًا عن فشل أمني غير مسبوق وقصور في إجراءات الاستعلام والتوقّي في بلد له من الإمكانيات التقنية والبشرية ما يمكنّه من استباق أي هجوم من هذا النوع.
هجمات باريس تأتي قبل أسابيع قليلة من الانتخابات المحلية ورغم أن الأحزاب الرئيسية قد علقت حملاتها الانتخابية بعد الهجوم فإن حملة انتخابية من نوع آخر انطلقت مع تبني داعش للهجمات ويمكن القول من الآن وبكل وضوح إن اليمين الفرنسي المتطرّف وأساسًا حزب الجبهة الوطنية سيتقدم بقية الأحزاب ولن يقتصر الأمر على الانتخابات المحلية بل سيشمل الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية ولا غرابة تبعًا لذلك أن تكون زعيمة حزب الجبهة الوطنية “مارين لوبان” رئيسة على فرنسا في 2017، ما حدث في إسبانيا بعد عملية “قطارات الموت” التي تبنتها القاعدة من انقلاب في الموازين الانتخابية بين خوزي ماريا أزنار و خوزي لويس ثاباتيرو يبدو أقرب إلى التحقق مع اختلاف السياقات والأسباب.
على مستوى السياسة الخارجية من الممكن أن يصبح الموقف الفرنسي أكثر تصلبًا من النظام السوري؛ فالفرنسيون يدركون جيدًا أن داعش تتغذى من يأس السوريين من أي حل سياسي ينهي نظام الأسد وعلى هذا الأساس من المتوقع أن يكيفوا سياستهم الخارجية، لكن الأرجح أن تكون ردة الفعل الفرنسية الأوضح صوب ليبيا لا باتجاه سوريا، حيث أعلنت داعش منذ أيام عن سيطرتها على كامل مدينة سرت ولو تبين مثلاً من خلال التحقيقات أن أصول مرتكبي الاعتداءات من أصول مغاربية فإن هذا الاحتمال سيتعزز وفي هذا السياق لن تغامر فرنسا بقوات على الأرض في رمل الصحراء الليبية المتحرّك، لكن تدخلها سيقتصر على حملات قصف جوي مكثف في ليبيا وتعزيز لدورها الأمني الاستخباري في تونس، وإذا كان وقع هجمات شارلي إيبدو غير كافٍ لدفع فرنسا باتجاه ليبيا فإن هجمات مسرح الباتاكلان وملعب سان دوني تبدو كافية وزيادة.
مازالت دماء ضحايا الهجوم لم تجف بعد والأكيد أن تقدم التحقيقات وبيان الحقيقة حول هذه الاعتداءات سيحمل معه تطورات سريعة، متلاحقة، ومحددة في موازين القوى ومجريات الأحدث بمنطقة حوض المتوسّط.