في ظل الهيمنة الإيرانية على مجريات الأمور في العراق، كانت تبدو هناك تنسيقات أمريكية إيرانية في السابق، لكنها تتلاشى الآن مع فشل مواجهة داعش عن طريق الاعتماد على الجيش العراقي والمليشيات الطائفية المدعومة من طهران، ومن هنا بدأ الأمريكيون والإيرانيون في اتخاذ مفترق طرق داخل العراق بسبب اختلاف وجهات النظر حول آليات مواجهة داعش وترتيب بيت السلطة العراقي الداخلي.
فشل الجيش العراقي في استعادة المدن التي تقع تحت سيطرة داعش، كما خفت نجم مليشيات الحشد الشعبي الشيعية بعد ارتكابها مجازر طائفية أثناء المواجهات مع داعش، لذا رأت الإدارة الأمريكية أن الاستمرار في الاعتماد على الإيرانيين وأتباعهم في العراق لن يُجدي أمام وحش داعش الذي يتمدد في العراق بسرعة البرق، بينما ترى الاستراتيجية الأمريكية ضرورة طرد داعش من العراق نهائيًا، بينما تتساهل معها في سوريا باسم الحصار.
لذا بدأت الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات أحادية الجانب لم تُرض الجانب الإيراني ووكلائه في بغداد، بداية من الحديث عن قوة عسكرية سنية تسلحها الولايات المتحدة للمشاركة في الحرب على داعش، انتهاءً بالاعتماد الكامل وتوجيه الدعم اللوجيستي والعسكري لميلشيا البيشمركة الكردية التي أثبتت جدارتها لدى الأمريكان في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
إلى جانب الصراع داخل البيت الشيعي الممسك بزمام السلطة في بغداد، حيث العبادي الذي مال إلى جانب الولايات المتحدة رغم خلافه معها في عدة جوانب، ومن ناحية أخرى يحاول نوري المالكي وبعض القوى المدعومة من إيران إعادة إنتاج نفسها مرة أخرى في مواجهة العبادي وإصلاحاته في الداخل بقوة، ومعادية للتوجه الأمريكي بتحييد مليشيات الحشد الشعبي الشيعية.
وبالتزامن مع هذا الخلاف العراقي تدخل الروس عسكريًا بشكل مباشر في الجارة سوريا، وبدأت تظهر دعوات لتدخل مماثل في العراق، إذ رحبت أطراف في التحالف الوطني الحاكم (الذي يضم الكتل الشيعية) بتصريحات زعيم “منظمة بدر الشيعية” هادي العامري الداعمة لتدخل عسكري روسي في العراق ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد كيل الاتهامات للولايات المتحدة بالفشل في قيادة التحالف الدولي ضد داعش في العراق وسوريا.
على الصعيد الروسي صرحت موسكو أنها ستدرس إمكانية مشاركة قواتها الجوية في العراق، في حال تلقت طلبا رسميا من بغداد، هذا الطلب الرسمي لا يأتي إلا من خلال حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي صاحب الموقف المتملل بين الضغط الأمريكي والضغط الشيعي الداخلي.
الولايات المتحدة قررت أن ترد نيابة عن العبادي سريعًا على لسان وزارة الخارجية الأميركية التي أكدت أن الدعوات التي يطلقها مسؤولون عراقيون بشأن توسيع روسيا عملياتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لتشمل العراق لا تمثل الحكومة العراقية، وهكذا ضغطت الولايات المتحدة على العبادي لرفض هذا التدخل العسكري الروسي.
بينما أوعزت إيران إلى حلفائها في بغداد بالضغط على العبادي عن طريق الكتلة التي يقودها نور المالكي داخل التحالف الوطني الشيعي لتهديد العبادي إما القبول بالتدخل الروسي أو الإستقالة، مع خلط هذا الملف مع أزمات داخلية أخرى متعلقة بإصلاحات العبادي وغيرها.
إيران ترى ضرورة تشكيل مركز للعمليات المشتركة في العراق لشن العمليات العسكرية ضد داعش في المنطقة، هذا المركز يكون بقيادة إيرانية روسية وينضم تحت لوائهما العراق وسوريا، وقد بدأت بالفعل إرهاصات هذا التنسيق بتوقيع موسكو على اتفاق جديد لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع إيران، والعراق، وسوريا.
يأتي هذا كله في ظل مخاوف أمريكية من نوايا هذا التحالف الذي من شأنه أن يعزز من نفوذ الروس في المنطقة بحيث لن يقتصر على سوريا فقط التي تتدعي روسيا أنها تدخلت عسكريًا بها لحماية مصالحها الاستراتيجية، وتحالف إيراني روسي في العراق من شأنه أن يقوض من نفوذ الولايات المتحدة في هذه المنطقة المتاخمة للخليج الذي يُعد أكبر مناطق نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
هذا التحالف الإيراني الروسي من شأنه أيضًا أن يسيطر على المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، بحيث سيكون هذا التمدد على حساب تقلص تواجد الولايات المتحدة شمالًا وجنوبًا، وقد يكون للروس طموحًا آخر في التأثير على خريطة استخراج الطاقة من المنطقة، كما سيغري هذا التحالف العملاق الصيني للإنضمام إليه لاحقًا إذا ما وفر الروس والإيرانيون المغريات اللازمة لذلك، مما سيكون من شأنه تغيير قواعد اللعب القديمة في الشرق الأوسط التي احتفظت بها الولايات المتحدة لفترات طويلة.
خطوات الولايات المتحدة لمواجهة هذه الاحتماليات لم ترق إلى المستوى المطلوب حتى الآن، وإنما اكتفت بالضغط على العبادي بشكل سياسي لمنع وجود أي تواجد عسكري روسي في العراق، لكن لا أحد يعلم حتى الآن إلى متى سيصمد العبادي أمام الضغوط الشيعية الداخلية التي تأتي بتوجيهات من طهران، وصلت إلى حد التهديد بسحب الثقة من حكومة العبادي.
كما تستخدم القوى الضاغطة على العبادي ورقة فشل الولايات المتحدة في قيادة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وعدم تحقيق أي تقدم على الأرض بعد عدة أشهر من استمرار القصف الأمريكي على معاقل التنظيم، في مقابل استحسان دور الروس في سوريا والحديث عن نجاحه أمام القوى المتطرفة التي تواجه نظام الأسد.
في حين يبقى العبادي وحده بالإضافة إلى الأكراد في صف الولايات المتحدة مع وجود محاولات لاستمالة السنة في العراق لمواجهة دعوات التدخل الروسي في العراق، في المقابل ينشط المحور الإيراني في العراق “محور نوري المالكي” الذي يحاول أن يتخلص من العبادي بشتى الطرق عن طريق تفجير البيت الشيعي من الداخل.
بحيث ينسحب المالكي وبعض القوى الشيعية من التحالف الوطني الشيعي الحاكم، وكذلك يُحدث انشقاقًا في حزب الدعوة الإسلامية الذي ينتمي إليه العبادي ما سيضعه في موقف حرج أمام مطالبتهم بالسماح بالتدخل العسكري الروسي في العراق، ما يعني أن الإيرانيون هم من يقومون بدور إفساح الطريق العراقي للروس بإزالة بقايا العقبات الأمريكية التي تقف في وجه ذلك الأمر، وذلك تحت ستار محاربة داعش ولكن ما قد تثبته الأيام أن لهذا التحالف مآرب أخرى غير داعش في العراق.