اتجهت الأنظار إلى مدينة أنطاليا الساحلية بجنوب تركيا بالأمس لمتابعة قمة الدول العشرين الكبرى، والتي تمثل 90% من الاقتصاد العالمي و80% من التجارة العالمية، وثلثي التعداد السكاني للبشر، وهي قمة عادة ما انصبت بالتبعية على مناقشة الملفات الاقتصادية والعالمية دون التطرق للسياسة بشكل مباشر، تاركة عالم السياسة لأروقة الأمم المتحدة، غير أن الأحداث الجارية على مسافة ليست ببعيدة من المدينة المضيفة المطلة على البحر المتوسط قد فرضت نفسها بشكل غير مسبوق، لتصبح تلك القمة أول مرة تُناقش فيها الملفات السياسية بشكل أساسي، والملف السوري تحديدًا وملف اللاجئين المرتبط به كانا على رأس القائمة بطبيعة الحال، لا سيما بعد هجمات باريس التي سبقت القمة بيومين.
كانت مصادفة مناسبة إذن أن يكون الدور قد أتى على تركيا لتترأس القمة هذا العام، والتي لم تكن مضيفًا جغرافيًا فقط بل وسياسيًا أيضًا، فهي تقع في القلب من كافة الصراعات الجديدة؛ سوريا إلى جنوبها وأوكرانيا إلى شمالها، وتزداد مركزيتها بالنسبة لأوروبا أولًا، نظرًا لأهمية دورها في ملف اللاجئين السوريين، وهو الأولوية الأولى للاتحاد الأوروبي حاليًا، وبالنسبة للولايات المتحدة ثانيًا، والتي تحتاج إلى التعاون مع الجيش التركي أكثر من أي وقت مضى في مواجهة داعش بشكل أكثر كفاءة، والبحث عن حل لتعزيز موقع المعارضة السورية بوجه العملية العسكرية الروسية الداعمة لنظام الأسد قبل الخروج باتفاق نهائي.
فعاليات اليوم الأول للقمة كما نقلتها قناة روسيا اليوم
لم يكن غريبًا إذن أن يقرر زعماء الدول العشرين إصدار بيان ينددون فيه بالإرهاب وعدم ارتباطه بأي دين أو عرق، وذلك بعد أن وقفوا دقيقة حدادًا على أرواح ضحايا هجمات باريس بالأمس في أول أيام القمة، لتكون هذه أول مرة يصدر بيان رسمي من قمة لمجموعة العشرين يتعلق بملف سياسي أو أمني، وقد استمرت مناقشة نفس المسألة على العشاء الرسمي، والذي كان عنوانه بوضوح “تحديات عالمية: الإرهاب والهجرة”، لتتنحي جانبًا ملفات أخرى كالبيئة ونمو الاقتصاد العالمي.
على الناحية غير الرسمية جرت مناقشات ثنائية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي باراك أوباما لمدة ساعة على هامش القمة حضرها وزيرا خارجية البلدين، فريدون سينيرلي أوغلو وجون كيري، وكانت مناقشة دافئة كما بدا من المؤتمر الصحافي للطرفين المتقاربين مؤخرًا ناقشا فيها المرحلة المقبلة من عمليات التحالف ضد داعش، كما جرت مشاورات أيضًا بين أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرّح بعدها الكرملين بأن الخلافات حيال الملف السوري لا تزال موجودة، وكذلك بين بوتين والمستشارة الألمانية أنغلا ميركل.
المؤتمر الصحافي المشترك لأردوغان وأوباما
على صعيد آخر، صرّح رئيس المفوضية الأوروبية جيان كلود يانكر، تعقيبًا على محاولة الربط بين ملف اللاجئين وهجمات باريس، أن الاتحاد الأوروبي ليس بحاجة لإعادة نظر شاملة في سياساته تجاه استضافة اللاجئين بعد الهجمات، مشيرًا إلى أن منفذي الهجمات هم نفس الأشخاص الذين يهرب بسببهم اللاجئون إلى أوروبا، في رد واضح على الضغوط التي تتعرض لها القيادات الأوروبية مؤخرًا لكبح سيل اللاجئين القادمين إليها، والتي من المتوقع أن تزداد بعد ما جرى في باريس.
لم تتمسك أوروبا فقط بموقفها من أزمة اللاجئين، بل ومن موقفها في سوريا، والذي اقترب أكثر من المعارضة السورية نتيجة التقارب بين أردوغان وميركل مؤخرًا على خلفية رغبة الأخيرة في قيام تركيا بالمزيد من المساعدة في ترشيد حركة اللاجئين، فقد صرح دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي في مؤتمر صحافي له ردًا على سؤال عن الخلافات مع روسيا، بأنه على الجميع تركيز الجهود بمواجهة داعش، وعدم المساس بـ”المعارضة الإسلامية المعتدلة” كما وصفها، في نقد صريح للروس الذين أشار لهم بالاسم، “على روسيا ألا تعارضهم، وإلا أدى إصرارها على موقفها الحالي إلى خروج المزيد من اللاجئين من سوريا”، وهو أمر متوقع بالفعل نتيجة استمرار المعركة الدائرة في حلب الآن.
المؤتمر الصحافي ليانكر وتوسك
بخصوص تركيا، وفي إصرار على موقفها النابع من ثقتها في حاجة أطراف مختلفة إليها في تلك المرحلة، علاوة على استضافتها الرسمية للقمة، كان كل من أردوغان ورئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو قد صرحا قبيل القمة مباشرة مجددًا بأهمية منطقة الحظر الجوي في الشمال، على غرار ما جرى بشمال العراق منذ التسعينات وصاعدًا، علاوة على الإشارة إلى احتمالية قيام تركيا بعملية برية لأول مرة صراحة في محاولة للضغط على الولايات المتحدة من ناحية لوقف التنسيق المستمر بينها وبين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال، وعلى روسيا من ناحية أخرى والتي لن تمتلك خيار التدخل البري بشكل موسع لفرض أجندتها رغم ضرباتها الجوية الجارية الآن.
جدير بالذكر أن رئاسة تركيا لأعمال مجموعة العشرين قد امتدت طوال العام، وشملت اجتماعات أخرى على مستويات وزارية مختلفة لمناقشة ملفات تنموية عديدة، كان منها اجتماع في مايو بين وزراء الزراعة العشرين لمناقشة الأمن الغذائي، واجتماع وزراء الطاقة، الأول من نوعه في مجموعة العشرين، لمناقشة إتاحة الوصول للطاقة في أفريقيا جنوب الصحراء، علاوة على ذلك قامت تركيا أثناء رئاستها بمباردة منتدي المشاريع الصغيرة والمتوسط بالبلدان العشرين، والتي تمثل حوالي ثلثي الاقتصاد العالمي، لمناقشة سبل تعزيز التنسيق بينها وتعزيز دورها ووصولها للتمويل بشكل أفضل.
أخيرًا، وبينما انهمك قادة الدول الغربية مع روسيا وتركيا في بحث الملفات السياسية، وتنحى الاقتصاد لمناقشات الدول الأبعد عن منطقة الصراعات كالصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل، يبدو وأن الزائر الأكثر حضورًا وأقل صرامة كان رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو، والذي تُعَد زيارته لأنطاليا أول رحلة دبلوماسية له بعد تولى منصبه الجديد، وبينما انتشرت عالميًا أخبار حكومته الليبرالية الجديدة الجاذبة للأنظار خلال الأسابيع الماضية، التفت حول ترودو مجموعة من المعجبين أثناء القمة لالتقاط الصور الشخصية معه.