قامت تركيا بالأمس بإلغاء اتفاق مبدأي لشراء منظومة الدفاع الصاروخي بعيد المدى التي تحتاجها من شركة صينية مقابل 3.4 مليار دولار، بعد عامين من إثارة الجدل باختيارها للشركة في المقام الأول، والتي أقلقت الكثير من حلفائها في الناتو نظرًا لعدم قابلية النظام الصيني للعمل بتناغم مع المعدات العسكرية الأخرى التابعة للحلف تركيا، علاوة على خضوع الشركة الصينية المعنية CPMIEC للعقوبات نتيجة صفقات مع النظامين الإيراني والكوري الشمالي.
هذا وتم اتخاذ القرار بالأمس في نفس الوقت الذي تجري فيه قمة العشرين، والتي شهدت تقاربًا بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان وباراك أوباما بخصوص الحرب على داعش، وهو قرار ستنتهي الحكومة التركية من كافة إجراءاته مع الإعلان عنه بشكل رسمي خلال هذا الأسبوع بعد موافقة أعضاء اللجنة التنفيذية لصناعات الدفاع التركية، والتي يترأسها رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، وتضم وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس مكتب صفقات الدفاع.
كانت المفاوضات مع الصين قد وصلت مؤخرًا لطريق مسدود نتيجة خلاف حول ماهية التكنولوجيا المنقولة للأتراك، كما نقل موقع سي إن إن تورك بالأمس عن مصادر تركيا لم تفصح عن نفسها، حيث كان الصينيون عازمين على توريد نظام FD2000، وهو المكافئ الصيني لتكنولوجيا باتريوت الأمريكية، ليقدموا بالفعل العرض الأرخص لتركيا، غير أن خلافًا قد وقع حيال الشرط التركي بأن تكون 50% من عمليات التصنيع داخل تركيا، بشكل يدر 1.1 مليار دولار لشركات الدفاع المملوكة للدولة في تركيا؛ روكيتسان وأسيلسان وأيساس.
كانت الخطط لشراء منظومة دفاع صاروخي صينية مع الحصول على حقوق تصنيعها جزئيًا داخل تركيا لنقل الخبرات قد وُضِعَت منذ حوالي عقد كامل ليتأخر التوقيع على الاتفاق النهائي عام بعد عام، وهي فترة استمرت فيها المفاوضات بين تركيا والشركتين الأمريكيتين لوكهيد مارتن ورايثون، ومجموعة يوروسام الفرنسية الإيطالية، فيما يعتقد محللون أنه كان محاولة من تركيا تحسين شروطها في المفاوضات مع الأمريكيين والأوربيين لا أكثر عبر طرح الصفقة الصينية، والتي لم يكن سهلًا أبدًا أن تكون أنقرة جادة فيها بشكل نهائي.
“المسألة واضحة، تركيا تحتاج إلى نظام يعمل بشكل متناغم ومشترك مع نظام حلف الناتو وهو أمر لا تملكه الصين،” هكذا تحدث أرون شتاين الباحث بالمجلس الأطلنطي، فنصف رادارات الدفاع الجوي المعتمدة على شبكات الاتصالات في تركيا تابعة للحلف والذي يتكبد تكاليفها، كما أنها جزء من منظومة الدفاع الجوي الأوسع للناتو، واختيار تركيا بأن تشتري النظام الصيني أو تصنع نظامها الخاص في ظل استمرارها بالتحالف الغربي عسكريًا كان يعني ببساطة فقدانها لنصف إمكانياتها الرادارية نتيجة عدم تناغم النظام الجديد معها.
من ناحية أخرى، قال شتاين أن تركيا اتجهت للصينيين رغبة منها في توسيع الإنتاج المحلي لنظام الدفاع الصاروخي واكتساب معرفة تصنيعه، ومن ثم تصنيع نظامها الخاص في المستقبل، غير أن تركيا كانت لتحتاج منظومة بيانات وسيطة تربط بين نظامها الدفاعي الخاص ومعدات الناتو، وهي بيانات شديدة السرية لا يمكن السماح لها بالعمل على أي نظام منافسةعلى المدى القريب، والصين تعتبر واحدة من “المنافسين” بالطبع، وإن كان يمكن السماح لها بالعمل على النظام التركي الخاص، مما يعني أن تركيا كانت لتعاني لسنوات طويلة من هبوط كفاءة نظام الدفاع الجوي الصيني المحظور عليه العمل ببيانات التشغيل التابعة للناتو، قبل أن تنتج نظامها الخاص، وهي مسألة غير مضمونة بطبيعة الحال، لا سيما مع الفارق الكبير بين الصناعة العسكرية التركية مقارنة بنظيراتها الغربية.
إن كانت أنقرة قد أبدت استعدادًا لتبني تلك المخاطرة كما بدا قبل 2011، فإنها كانت تمتلك أنذاك ترف النظر للطموحات بعيدة المدى نوعًا ما، مع التضحية جزئيًا بمميزات الناتو العسكرية، في حين أنها اليوم ومع اندلاع الصراع في سوريا وظهور تنظيم داعش على حدودها، علاوة على عودة روسيا للعب دورها بشكل موسّع بحريًا وجويًا بالقرب منها، وعودة التوتر بينها وبين إيران، يتحتم عليها أن تبني سياساتها وفق احتياجاتها الملحة الآن، وهو ما قد يفسر تنازلها عن مميزات الصفقة الصينية بعيدة المدى لصالح تعزيز نظام الناتو الأكفأ عالميًا حتى الآن، والذي تحتاجه أكثر من أي وقت مضى.
يأتي إلغاء الصفقة، ليس فقط في إطار أولويات عسكرية جديدة، بل وسياسات ومصالح جديدة توطد من العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا من جديد، حيث يبدو الطرفان عازمان أكثر من سواهما على تعزيز وضع المعارضة السورية مع مواجهة داعش بكفاءة، خاصة بالنظر لتنامي الدورين العسكريين الروسي والإيراني بشكل غير مسبوق في سوريا، وهو ما يترك الجيشين التركي والأمريكي فقط كقوتين وحيدتين تمتلكان القدرة على تعديل الموازين، على العكس من الخليج وأوروبا اللذين يمتلكان الإمكانيات المالية لدعم أطراف مختلفة في الصراع ولكن ليس العسكرية.
بينما يحتاج الأتراك إلى الأمريكيون أكثر من أي وقت مضى، يحتاج الأمريكيون بدورهم إلى الأتراك أيضًا أكثر من أي وقت منذ انتهاء الحرب البادرة، وهو ما يفسر وجود معدات عسكرية أمريكية على الأراضي التركية بعدد غير مسبوق منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، فالأمريكيون بحاجة لشريك إقليمي في احتواء الروس بالبحر الأسود وشرق أوروبا شمالًا، والبحر المتوسط والشرق الأوسط جنوبًا، بينما يخففون هم من تواجدهم نتيجة استراتيجيتهم الجديدة الأقل تشابكًا عسكريًا بشكل مباشر، وأكثر رغبة في الاعتماد على لاعبين إقليميين لما في ذلك من كفاءة أكبر كما ترى واشنطن، وهو أمر يراه البيت الأبيض متجسدًا في تركيا أكثر من سواها.
لا نعرف إلى من ستتجه تركيا بالطبع في صفقتها الجديدة، المجموعة الأوروبية أم الشركتين الأمريكيتين، فقد كانت الأولى هي صاحبة الأولوية الثانية بعد الشركة الصينية في حين امتلك الأمريكيون المركز الأخير وقت الإعلان عن الصفقة الصينية، غير أنه من المرجح بالنظر لقوة العلاقات التركية الأمريكية حاليًا أن تؤول الصفقة لشركة لوكهيد مارتن المعروفة والأكبر عالميًا في إبرام عقود التسليح، خاصة وأن الأتراك الآن حريصين على تعزيز علاقاتهم بالخليج والأردن بما في ذلك المستوى العسكري لإحداث أكبر قدر من التناغم فيما يخص الساحة السورية، وهو ما يعني استفادتهم من تقارب الأنظمة الدفاعية مع الخليج والأردن اللذين يعتمدان على المعدات الأمريكية بشكل كبير.