كيف نجح الخميني وفشل العرب؟ (2)

1*DsOAcjHB8WEu1FzvtigIZA

انتهى الجزء الأول من هذا المقال بالحديث عن الشروط التي وضعها الخميني لمنصب رئيس الجمهورية الإسلامية بما يتوافق مع بنية النظام الجديد القائم على نظرية ولاية الفقيه، لكن ونظرًا لأن الشعب الإيراني جديد عهد بهذا النظام من جانب، وعدم رغبة الخميني بمضاعفة تهميشة لرفقاء الثورة السابقين من التيارات القومية واليسارية واستفزازهم أكثر في ضوء استحواذ رجال الدين المتشددين على مفاصل الدولة من جانب آخر؛ فإن منصب رئيس الجمهورية في أول انتخابات بعيد الثورة كان من نصيب أبو الحسن بني صدر، وهو شخصية ليبرالية معتدلة ينتمي لتيار يمين – وسط، ومن المؤيدين للثورة، ولكنه من المعارضين لنظرية ولاية الفقيه، ورغم القسم الذي أدلى به الرئيس المنتخب وأظهر فيه تمجيده للخميني حيث قال: “في محضر إمام الأمة (يقصد الخميني) والذي يجسد حضور الأمة بأسرها، أقسم بالله العظيم أن أدعم الدستور، ونظام الجمهورية الإسلامية، ومذهبه الرسمي، وأن أحافظ على الدستور”، فإن الخلافات بين الرجلين ما لبثت أن تفجرت، وازادت مع مرور الوقت حتى بدا المشهد في إيران وكأن البلاد انقسمت بين معسكرين أحدهما مع الخميني وتياره الأصولي من رجال الدين، والآخر مع بني صدر وتياره الديمقراطي، وقد كان جوهر الخلاف بين الرجلين يكمن في نظر كل منهما إلى مصدر السلطة؛ ففي الوقت الذي رأى فيه بني صدر أن مصدر السلطة هو الشعب الذي انتخبه بالاقتراع المباشر، كان الخميني يرى أن السلطة لا تستمد من الشعب بل من الله، وبما أن الولي الفقيه هو المُبلغ عن الله فإن السلطة إذن هي سلطة الولي الفقيه وليست سلطة الشعب! 

هذه الخلافات في الرؤية انعكست على سياسات كلا الرجلين تجاه تسيير الدولة ما بعد الثورة؛ فقد شعر الخميني أنه فقد شيئًا من سطوته على السلطة التنفيذية بانتخاب بني صدر، ولذلك أراد إعادة تدعيم سطوته من خلال إجبار الرئيس على تعيين رئيس للوزراء من طبقة رجال الدين، وهو ما تم بالفعل فقد أجبر مجلس الشوري – الذي يسيطر عليه بغالبية مطلقة رجال الدين من الحزب الاسلامي المحسوب على الخميني – الرئيس بني صدر على تعيين محمد علي رجائي المحسوب على التيار المتشدد؛ دفعت هذه السياسات من رجال الدين المتشددين بني صدر إلى شن هجوم واسع على الخميني ونظامه مستخدمًا حقوق السجناء وما يتعرضون له من تعذيب مادة في التجيش والانتقاد، حتى خيل للمراقب وقتها أن بني صدر لا ينطق بكونه رئيسًا للجمهورية بل بكونه رئيسًا للمعارضة، فقد قال في إحدى كلماته: “هذا النظام يعتبر ملكًا للغوغائيين، والذين يفرضون كلامهم بالقوة، ويقبضون الرشاوى ويوزعونها”.

في المقابل لم يكن رد الإمام الخميني أقل حدة من ذلك، فقد صنف بني صدر وكل الذين يدعمونه بـ “المنافقين” و”أعداء الثورة الإسلامية”، وقال في حقه: “هذا الشاب الجاهل (بني صدر) لم يستطع أن يدرك ويستوعب معنى الإسلام والدولة الإسلامية، وقد تسبب في تخريب وتشويه سمعته”، وقد حسم الخميني أمره في عزل بني صدر مالم يحقق الشرط الذي وضعه وذلك بالابتعاد عمَّن وصفهم بـ “الفاسدين والمنافقين” ويقصد بهم “مجاهيدن خلق” و”فدائي خلق” وهم الجماعات التي تعتبر امتداد للتيارات والأحزاب اليسارية، والتي بدأت تستهدف رجال الدين ونظامهم بعمليات عسكرية بعد أن أبانت لهم الأحداث والإجراءات المتبعة بأن النظام يسير في طريق تصفية جميع الخصوم وإنشاء ديكتاتورية الولي الفقيه.

وفي نهاية المطاف فقد دفعت المصادمات الدامية والعنيفة في الشارع الإيراني بين مؤيدي ومعارضي رئيس الجمهورية في نهاية يونيو من عام 1981، بني صدر وزعيم جماعة مجاهدي خلق مسعود رجوي للهرب إلى فرنسا طالبين اللجوء السياسي، وقد حملت هذه الأحداث دلائل على أن التصنيفات القائمة على الدين كانت واحدة من أهم الوسائل التي اتبعها الخميني في تصفية خصومه، فالأمر لا يعدو أكثر من  وصف هؤلاء الخصوم بالمنافقين أو أعداء الثورة حتى تكتسب الخصومة معهم ذلك البعد الديني فيصبح استهدافهم من الأفعال التي يُؤجر عليها فاعليها.

بعد هروب بني صدر واغتيال محمد رجائي، آل منصب رئيس الجمهورية للسيد علي خامنئي (مرشد الثورة حاليًا) وبذلك أصبح منصب الرئاسة محسومًا لتيار الولي الفقيه، في الأثناء كانت معركة أخرى تدار على صعيد مأسسة السلطة التشريعية وذلك من خلال انتخاب مجلس الشوري الإسلامي (البرلمان)، وفي رسالته إلى الأمة بخصوص هذا الموضوع أوضح الخميني مواصفات ومهمات أعضاء البرلمان القادم حيث قال: “أتمنى أنكم سوف تستمرون بالثورة الإسلامية العظيمة حتى النهاية، والتي ستتوج بتأسيس ولاية الله على كافة مناحي الدولة، آمل أنكم سوف تبعثون المحرومين إلى المجلس الإسلامي”، وكان يقصد بالمحرومين أتباعه من طبقة رجال الدين الذين أقصاهم الشاه سابقًا عن التدخل بالشأن العام.

وتمهيدًا لانتخابات البرلمان اشترطت وزارة الداخلية آنذاك على النواب الحصول على الأغلبية المطلقة للدخول إلى المجلس، وهو ما حرم الكثير من التيارات والأحزاب السياسية الحصول على مثل هذه الأغلبية نظرًا لحملات الملاحقة والتهميش التي كانت تتعرض لها من قِبل النظام الثوري، على عكس الحزب الإسلامي الذي أنشأه الخميني والذي كان الوحيد القادر على الحصول على مثل هذه الأغلبية، الأمر الذي وفر له فرصة أن يكون أكبر الأحزاب في البرلمان الأول في تاريخ الجمهورية الإسلامية الوليدة، وفي خطابه الأول أمام البرلمان حدد الخميني السياسات العامة التي يجب على النواب مراعاتها حيث قال: “لقد تم انتخابكم لتطبيق عدالة الإسلام، … واتباع سياسة لا شرقية ولا غربية في كل مجالات الدولة الداخلية والخارجية”.

هكذا ومع انتخاب المجلس الأول أكمل الخميني عِقد المؤسسات السيادية للدولة (مؤسسة القائد، مؤسسة الرئاسة، المؤسسة التشريعية، والمؤسسة القضائية – التي ارتبطت بشكل مباشرة بمؤسسة القائد والذي أسندت إليه وحده مهمة تعيين القاضي العام) وفق نظرية الولي الفقيه لينتقل إلى عِقد آخر بدأه بما عرف بـ “الثورة الثقافية” والتي أتت على مناهج التعليم والخطابة وغيرها من مناحي المجتمع الإيراني ليصبغها وفق نظرية الولي الفقيه، وهو المشروع الذي هدف منه إلى أسلمة المجتمع الإيراني وفرض وصاية على وجدان المجتمع، فعلى سبيل المثال فقد أمر الخميني بتشكيل لجنة متخصصة لمراجعة مناهج الجامعات الإيرانية ورسم مستقبل هذه الجامعات بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية ونظرية ولاية الفقيه.

ويمكن الحديث أنه بالتوازي مع إعادة مأسسة الخميني لمؤسسات الدولة الرسمية (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) وفق نظرية ولاية الفقيه فقد سعى أيضًا إلى إنشاء كيانات موازية تعمل على تدعيم الثورة، وتثبيت مبادئ ولاية الفقيه على الصعد السياسية والمدنية، ويأتي على رأس هذه المؤسسات من حيث الأهمية والنفوذ كل من مجلس خبراء القيادة الذي يشرف على مراقبة مؤسسة القيادة ويقوم بتعيين وعزل الولي الفقيه، ومؤسسة الحرس الثوري الذي أسندت له مهمة قيادة وإدارة الحرب مع العراق منذ بدايتها وحتى منتهاها، في حين أسندت له مهمات أخرى بعد الحرب تمثلت بقيادة مجموعة من الوكلاء خارج إيران تحت ذريعة تصدير الثورة، ويرتبط الحرس الثوري مباشرة بالولي الفقيه ويتمتع باستقلالية كاملة عن الجيش النظامي والذي يرتبط هو أيضًا بالولي الفقيه، ومن الجدير بالذكر أن الولي الفقيه هو الذي يحق له وحده إعلان الحرب وإيقافها، وعقد المعاهدات الدولية.

هذا الوضوح في الأهداف النهائية لدى الخميني والتي تمثلت في إصراره الكبير على إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مبادئ نظرية ولاية الفقيه، قد انعكس على سلوكه مع كل المخالفين له حتى ولو كانوا من رفقاء الثورة في الأمس، فعدالة السلوك الثوري لم تعد تقتصر على معارضة نظام الشاه وإسقاطه؛ بل على دعم نظام الولي الفقيه وعدم معارضته.

كان التخوين والتكفير والإقصاء والاغتيال جزاء كل أولئك الرافضين لنظرية ولاية الفقيه، وربما يندهش المرء عندما يعلم أن الخميني اعتبر معارضي نظريته بأنهم أشد خطرًا من الكفار، كان واضحًا لدى الخميني أنها ثورة، ومن سمت الثورات أنها لا ترحم معارضيها ولا منتقديها، ولذلك كان لازمًا إنشاء المحاكم الثورية وإخضاع كافة المعارضين لأحكامها المقصلية، وكما أقرت الدكتورة أمال السبكي في كتابها “تاريخ إيران السياسي بين ثورتين” فإن الثورة الإيرانية شأنها شأن كثير من الثورات لم يتحقق لها السلطان الكامل إلا بشل حركة العارضة والقضاء على من يتعاون معها، فألقي القبض على كل المتعاطفين مع بني صدر من العلمانيين ورجال الدين، وكان بينهم الحفيد الأكبر لآية الله الخميني، وأغلقوا دور الصحف المستقلة، كما أعدم أكثر من ألف وستمائة مواطن في الفترة التي تلت هروب بني صدر من يونيو حتى نهاية عام ١٩٨١، وأعدم ألفان ومائة من اﻟﻤﺠاهدين والفدائيين والمنتمين للجناح اليساري بفصائله، أما حزب توده اليساري فقد ساند في العلن النظام السياسي القائم خوفًا من الاضطهاد والقتل، وانتهت أعنف مراحل الثورة بافتراس أبناءها بصورة أكثر وضوحًا في عام ١٩٨٣”.

إذن! كانت هناك نظرية، وكانت هناك أهداف نهائية في منتهى الوضوح، وكان هناك منطق التعامل مع الثورة بمنطق الثورة وليس منطق الإصلاح السياسي، ولذلك يمكن فهم كيف نجح الخميني، بينما فشلت الثورات العربية في لحظتها الراهنة بترجمة الزخم الثوري على مستوى الشعور والحركة في قلب الواقع العربي المرير والخروج بواقع آخر يتناسب وحجم التطلعات والطموح العربي، أقول في لحظتها الراهنة لأنني أعتقد بأن الثورات العربية لم تضع أوزارها بعد، وأن الفرصة لم تضع، وما على الثوريين العرب إلا استدراك ما فاتهم، والقفز بثوراتهم إلى منصة النجاح .. إن أرادوا.