تقدم ويكيبيديا اسمًا عربيًا غريبًا لما يُعرف في الإنجليزية بحيوان Lobster، ألا وهو الكركند، تعرفه أغلب الشعوب العربية باسم جراد البحر، لكن يبدو أن هذه التسمية تشمل أصنافًا كثيرة من بينها ما يسميه الإنجليز Lobster، جراد البحر تسمية هلامية، لا حدود دقيقة لها، والكركند نفسه حيوان غريب، يعيش طويلًا، ويحافظ على قدرته الجنسية حتى الممات، ودمه أزرق مثل دماء النبلاء.
إنه ذلك الحيوان الذي لا يخطر على بال أحد منا إذا ما سُئلنا عن أي حيوان نتمنى أن نكونه، إنه رمز جيد للفرادة المتواضعة، الفرادة التي لم تختر أن تكون كذلك، هل كان دايفيد (كولن فارل Collin Farrel) واعيًا بذلك حينما اختار أن يكون حيوان كركند إذا ما فشل في العثور على شريك جديد؟ الإجابة الأقرب هي لا، لكننا سنفهم ذلك لاحقًا، دعوني في البداية أقدم لكم أولى إبداعات المخرج اليوناني يورغس لانتيموس Yorgos Lanthimos الناطقة بالإنجليزية: الكركند أو The Lobster.
اشتهر المخرج اليوناني من خلال فيلم ناب الكلب Kynodontas الذي قدمه سنة 2009 وحصد به جائزتين في مهرجان كان، ورشح به للأوسكار، ولذلك فقد استعمل نفس الأدوات تقريبا في فيلمه الجديد، الكركند، يذهب بنا إلى عالم مقوض مخيف، ومضحك في آن واحد، تضوع السريالية من كل ركن من أركانه، ولكنها تلك السريالية التي تعيد تشكيل الواقع إلى شيء أكثر واقعية وأكثر رعبًا، إنها تلك السريالية التي تصنع عالمًا مألوفًا جدا ومفهومًا رغم كل انحرافاته الشكلية، نتابع رحلة البطل التي تنتهي بالتخلص من هذا العالم بأقسى أشكال التمرد، إن هذا النوع من الأعمال محفوف بالمخاطر، لأنه يعتمد على مفاجأة المشاهد وتحدي حس التوقع فيه، لكن لانتيموس لا يخيب في ذلك، فمن غير المفاجئ أن يفوز بجائزة النقاد في مهرجان كان لهذه السنة، ويرشح بقوة لجائزة الفيلم المستقل البريطاني، ولن يكون غريبًا أن نجده في قائمة ترشيحات الأوسكار للسنة القادمة.
يقدم لنا لانتيموس عالمًا يرفض الوحدانية، يقرر أن الناس لا تعيش إلا أزواجًا، وكل من توفي صاحبه أو تركه، يجبر على العيش في فندق العزاب، تشرف مديرة الفندق وزوجها على إعادة تأهيل العزاب والعازبات، ليدركوا قيمة الحياة الزوجية، حياتهم تصبح عدًا تنازليًا يتوقف إذا ما وجد أحدهم رفيقًا جديدًا لحياته يمنحه الحق في العودة إلى المدينة، أما إذا ما انتهى العد، فهي نهاية وجوده البشري، يختار أي حيوان يشاء ليتحول إليه، تتوسع القواعد وتمتد التفاصيل مع توغل البطل دايفيد في مغامرته الغريبة والرهيبة في الفندق، لنجد أنفسنا فيما بعد معه في عالم جديد أكثر توحشًا وأقل زخرفة، قواعده نقيضة تلك التي في الفندق، ففي الغابة، يتوجب على المرء ألا يقع في الحب، وألا يراقص أحدًا أو يشترك معه في لعبة غزل، إنه ألم الفرادى! وبين العالمين، يبحث دايفيد عن ذاته الرمادية، يحاول أن يعبر عن وجود عاجز عن التقولب، عاجز عن التكيف مع شريعة الغاب، ولا مع بروتوكولات الفندق.
إنها ليست قصة تمرد بالمعنى السائد، بل هي قصة خروج عفوي عن خط المجموعة، ربما لأن الفرد في مفهومه متمرد، متميز، مختلف، تجربة تحمل قوانينها الذاتية ولا تحتمل الالتزام التام بالخطوط الخارجية، هذه هي الإجابة عن سؤالنا المدخلي، فدايفيد لم يكن واعيًا، بل كان يحاول جاهدًا التكيف مع القالب الذي وضع فيه، لقد اندفع نحو أخطر نساء الفندق ليخطب ودها، مارس كل أشكال النفاق الاجتماعي الممكن ليحظى بثقة الناس من حوله، وأولئك الذين يشرفون على النظام، لكنه وجد نفسه في النهاية مارقًا، وجد نفسه غريبًا مثل الكركند.
لكن فكرة الخروج عن الخط ليست إلا الرتوش الأخيرة للوحة التي رسمها لانتيموس، فبقدر ما اعتنى المخرج بفرادة شخصيته الرئيسية دايفيد، بقدر ما اعتنى بالتعبير عن معيارية عالمه، ففي هذا العالم الذي يبدو في ظاهره غريبًا، يحتفى بالحب على أنه التصور الوحيد للتجربة الدنيوية، تقام له المتاريس والحدود والصفات، فعلاقة الحب يجب أن تنشأ بين شخصين، واعيين بمشاعرهما، لا مكان لأنصاف المشاعر، لا مكان للتردد أو الحيرة، أو التجارب الجانبية، وعلاقة الحب تعتمد أساسًا على التشابه، فالطرفان يجب أن يتشابها في عيوبهما، ربما يعرجان، أو ينزفان دمًا من أنفيهما، أو يعانيان من برود تام تجاه الآخرين، الحب ضروري في حياة المرء لأسباب لا داعي للمرء أن يبحث عنها، فقد حددها المجتمع سلفا: اليد الواحدة لا تصفق، المرأة بحاجة إلى من يحميها، الرجل بحاجة إلى من يعتني به، وسط كل هذه الصرامة من الطبيعي أن يجد النفاق له منبتًا خصبًا، كانت تلك مهمة مجتمع الفرادى The loners الذين يعيشون في الغابة، حيث كشفوا عن زيف العلاقات الناشئة طبقًا لمعايير الفندق.
لم يكن مجتمع الفرادى الجنة البديلة، لقد كان مجتمعًا آخر له معاييره المختلفة، وله تصوره الخاص عن التطرف وسلب الحريات، مرة أخرى نجد في هذا المجتمع صورة مألوفة رغم غرابتها: الحب ممنوع هنا، الغزل ممنوع، لا أحد يساعدك إن وقعت في مصيدة، ولا أحد يحفر لك قبرك إن مت، لم يختر دايفيد مجتمع المدينة ولا مجتمع الفرادى، ولم يستشره أحد بخصوص القواعد التي يجب اتباعها، ولا العقوبة التي يجب أن تتخذ، بل لم يختر أن يكون غريبًا عن كليهما، وتلك هي التراجيديا التي ترسم واقعنا نحن أيضًا.
يصور المجتمعان في مستوى آخر، ثنائية ذكية بين الفضاء الحضري الراقي، القائم على الزيف، وبين الفضاء البدائي المتوحش القائم على الحقيقة، كأن لانتيموس يرفض الجنوح في الزيف أو في الحقيقة، إن الإنسان بحاجة إلى كليهما.
إن الحب بحسب لانتيموس، ليس علاقة معدة سلفًا، ليس ما يجوز فعله وما لا يجوز، ليس قواعد حتمية الاتباع، ولكنه تعبيرة عن التمرد، إنه لا يتجلى إلا حينما تكون كل الظروف غير ملائمة، إنه أعمى ليس لأنه لا يرى ولكن لأنه لا يريد أن يرى، لا يريد أن يتسنى بسنن الآخرين، لا يريد أن يشبه أحدًا، لأن الحب هو الذات نفسها.
الاسم: The Lobster
السنة: 2015
المخرج: Yorgos Lanthimos
البطولة: Collin Farrel, Léa Seydoux, Rachel Weisc, Angeliki Papoulia
المدة: 118 دقيقة