تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عن النظام العالمي الحالي وعن أسسه وتاريخه وعلاقة أمتنا ودولنا وشعوبنا به، وفي الواقع فإن هذا النظام اليوم قد بدأت تظهر عليه علامات التصدع، ولعلّه وصل إلى أقصى القمة وبدأ بالانحدار، وإذا أردنا أن نحدد تاريخًا محددًا لوصوله للقمة وبداية مشوار الانحدار فلعلّ ذلك كان في عام 2007 حين استيقظ العالم يومًا ما على وقع أخبار الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة، ثم امتدت لكل العالم الغربي، ثم للدول الأخرى والتي صنّفت بأنها أكبر أزمة اقتصادية مرّت على تاريخ الولايات المتحدة ولربما العالم.
وسبب اختياري حقيقةً لهذه الأزمة الاقتصادية دونًا عن أي أزمة سياسية هو ما تحدثت عنه في المقال السابق من أن الاقتصاد في النظام العالمي الحالي توحش وتوسّع ليصبح مسيطرًا على السياسة ولذا فإن الكثيرين اليوم يعتبرون أن الاقتصاد أهم من السياسة وأكثر تأثيرًا على المجتمعات والأفراد، وإن كان ثمّة دلالة على أهمية اختياري لهذه الأزمة الاقتصادية فهي أن المخرج منها كان بتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية وهذا يعني تراجع النظام العالمي “ولو جزئيًا” عن مبدأ الحرية الاقتصادية التامة التي من أهم شروطها هو عزل السياسة والسياسيين عن التحكم بالاقتصاد تمامًا وهذا في الحقيقة ما يُنذر “برأيي” ببداية مشوار النهاية للنظام العالمي الحالي.
وبالطبع لا يعني حديثي عن بداية مشوار النهاية للنظام العالمي الحالي أن السقوط سيكون قريبًا، بل على العكس، سيكون هذا السقوط بطيئًا وسيمتد لعدة عقود بالتأكيد قبل أن نحكم عليه بالسقوط التام، ولا يعني كذلك أن سقوط هذا النظام سيُفضي إلى نهاية الولايات المتحدة وتحولها إلى دولة فاشلة كما يعتقد كثيرون، بل إن القراءة المتمعنة للتاريخ تخبرنا بأن انزياح دولة معينة عن قيادة العالم لا يعني حقيقةً تحولها فجأةً لدولة فاشلة، فها هي الإمبراطورية البريطانية التي كانت أكبر دولة في العالم طوال القرن الثامن والتاسع عشر ما زالت تحتفظ بهيبتها وأهميتها مع أن الولايات المتحدة تفوقت عليها بعد الحرب العالمية الثانية.
من أمارات بداية مشوار السقوط للنظام العالمي كذلك ضعف القبضة الأمريكية في السيطرة على العالم، ففي كثيرٍ من المناطق في العالم بدأت قوى إقليمية في الظهور والتحرر الجزئي من السيطرة الأمريكية بعد عقودٍ من الجمود، هذه القوى لا يمكن تجاهلها ولا يمكن غضّ النظر عنها خصوصًا أنها اتبعت نفس المنهج الذي اعتمدته الدول الكبرى واستطاعت أن تثبت نجاحات سياسية واقتصادية هائلة، فالصين مثلًا أصبحت من أكبر الاقتصادات في العالم خلال فترة زمنية بسيطة، وأصبح لها قوة سياسية كبرى ونفوذ دولي في كثيرٍ من المناطق والدول في العالم، قل نفس ذلك عن روسيا، فبعد عقدين ونصف من سقوط الاتحاد السوفييتي الذي حول روسيا حينها لدولة فاشلة ومفلسة؛ أعلنت روسيا بكل جرأة تدخلها الروسي العسكري في سوريا مع أن كل الدول المحيطة بسوريا تعتبر من ضمن نطاق النفوذ الأمريكي، فلو حدث هذا سابقًا كان سيعتبر استفزازًا واضحًا لأمريكا، ولو تخيلنا قيام الثورة السورية في بدايات القرن الحادي والعشرين مثلًا لم يكن للتدخل الروسي أن يحصل أبدًا ولم يكن للتعامل الأمريكي مع النظام السوري أن يكون بنفس الصورة، قل نفس ذلك عن الهند، وتركيا، وجنوب أفريقيا، والبرازيل، كلها تقريبًا أصبح لها نفوذ سياسي وقوة اقتصادية هائلة تجعلها مستقرة ومستقلة في اتخاذ قراراتها السياسية داخل بلدانها وخارجها، وبعد أن شهدنا عالمًا ثنائي القطبية تناحرت على زعامته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال العقود الأربعة من 1946 وحتى 1990 أصبحنا اليوم نشهد عالمًا متعدد القطبية مع زعامة أمريكية لا يمكن بالطبع غض النظر عنها.
لا نستطيع التنبؤ بما سيحدث بعد سقوط النظام العالمي الحالي، كما أننا لا نستطيع التنبؤ بموعد سقوطه بالتأكيد، ولكن ما سأكتبه هنا سيركز على محاولة فهم العالم الذي نعيش فيه اليوم وفهم الأيديولوجية التي يمكن أن يقوم عليها نظام عالمي جديد، فلا شك أن البشرية تحتاج لإعادة اختراع الدولة أولًا، كما تحتاج لإعادة ضبط الأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية التي تربط الأمم ببعضها البعض، ونحتاج كذلك إلى تفعيل منظومات القيم والأخلاق التي أرى أنها منعدمة في النظام الحالي تمامًا، وإن أردنا أن نسبر أغوار الأفكار والأيديولوجيات التي يمتلكها الإنسان اليوم “سواء عمل بها أو لم يعمل”، فإننا لا نكاد نجد أي فكرة يمكن الاعتماد عليها في بناء نظام عالمي جديد، إذ أن التطور الفكري والحضاري عند العالم الغربي شبه متوقف منذ عقود، كما أن نشاط المدارس الفكرية الغربية أصبح ينحصر في نطاق ردات الفعل على الأزمات التي تحدث في العالم، والفكر اللازم لبناء حضارة جديدة لا يمكن أن يكون مبنيًا على أساس من ردات الفعل، كما أن كل الدول الكبرى في العالم اليوم وما يليها من دول قوية سياسيًا واقتصاديًا لا يتوفر لها أي جذر فكري مختلف عن الأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي الحالي، مما يعني أنه ومع سقوط النظام العالمي الحالي فلن تتمكن أي أمة من هذه الأمم من صياغة أسس فكرية لنظام عالمي جديد لأنها ببساطة لا تعرف سوى هذا النظام ولا تدين بالفضل في تطورها سوى له.
وحده الإسلام يقف كأيديولوجية قوية وفكرة ثابتة يمكن أن تُبنى عليها حضارة بشرية جديدة ونسق سياسي واقتصادي جديد لتحل كل هذه المعضلات التي نعاني منها، وحديثي هنا بالطبع ليس عن الإسلام المنتشر حاليًا، فالنشاط الفكري الإسلامي اليوم متردي جدًا، ولكنني أقصد أن الأساس الأخلاقي والقيمي الذي يتمتع به الإسلام دون غيره تؤهله ليشغل هذا المنصب، بالطبع سيكون دون ذلك الكثير من المراجعات الفكرية والتحديات العصرية التي تواجه المسلمين كي يستطيعوا صياغة نظامٍ جديد، ولا بد لنا هنا أن نقول إن كل المحاولات النهضوية التي مرت على العالم الإسلامي منذ بداية عصر انحطاطه الحالي كانت فاشلة، وبإمكاننا أن نؤرخ لعصر الانحطاط العربي الإسلامي الحالي منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي تقريبًا، كل هذه المحاولات النهضوية كانت فاشلة لأنها لم تخرج عن احتمالين: الاستعارة المباشرة من تجارب ناجحة أخرى أو استنساخ التاريخ، ولا شك أن كلا الطريقتين ستفشلان فشلًا ذريعًا، لأن ما نجح به غيرنا لن ننجح به نحن، بسبب اختلاف المجتمعات والتحديات والرؤى، وحتى لو كان هناك بعض نقاط التلاقي بيننا وبين غيرنا فهذا لا يعني بالضرورة أن تنجح مجتمعاتنا كما نجحت مجتمعاتهم بنفس الأدوات والوسائل، وكذلك لن تنجح محاولات استنساخ التاريخ لأننا حين نفعل ذلك نتناسى أو نتجاهل القانون الكوني الثابت الذي يقضي بتغير الأحوال وتبدّل الواقع، فما كان يصلح قبل 14 قرنًا لن يصلح بالتأكيد اليوم، وكي لا أُفهم خطأ فأنا لا أتحدث هنا عن دين الإسلام بحدّ ذاته وإنما أتحدث عن الطريقة والفكر والأدوات التي صاغ بها المسلمون الأوائل النظام الذي حكم العالم لعدة قرون.
وهنا لا بد من التنبيه لنقطةٍ مهمة، وهي أن مشكلتنا الحقيقية لا تكمن في الإسلام كشعائر وعبادات، كما أن مشكلة الغرب معنا كمسلمين لا تكمن في هذه النقطة وخلافهم معنا لا يبدأ هنا، المشكلة الحقيقية هي يقين مفكري وقادة العالم الغربي اليوم بأن الإسلام يمكن أن يمثل شرارة لانطلاقة نظام عالمي جديد، وأن الأمة الإسلامية – على علّاتها – هي أكثر أمةً تشكل بيئة خصبة لهكذا نظام، ولذلك فإننا نشكل خطرًا عليهم لو حاولنا صياغة فكر جديد يستطيع أن يتبوأ المكان الذي يتمتع به الفكر الغربي في العالم اليوم، ويزيد الخطر عند محاولتنا اختبار هذا النظام ووضعه في موضع التجربة، كما أنه من المهم أن نذكر أن الحركات الإسلامية التجديدية في العالم الإسلامي عمومًا حاولت صياغة فكر إسلامي جديد يتعايش مع النظام الحالي ولكنها بالمجمل فشلت في تحقيق ذلك لأن المشكلة كانت في الأسس القيمية والأخلاقية المنعدمة عند النظام العالمي الحالي، ولذا فإن القضية ليست في فكر يتعايش مع النظام الحالي بقدر ما أن المسؤولية تفرض علينا صياغة نظام جديد من أساسه.
وعند الحديث عن صياغة فكر ونظام إسلامي جديد يجب علينا أن نتذكر أن الإسلام “كدين” لم يأتِ بنظام سياسي أو اقتصادي ولكنه شجع وبشدة على حرية الفكر، ولأن الإسلام شجّع على حرية الفكر فإن هذا كان سببًا واضحًا لكونه صالحًا لكل زمان ومكان، ولذا فإن البديل للنظام الحالي لا يوجد في الإسلام بحد ذاته وإنما يوجد – أو سيوجد – عند المسلمين، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام واضحًا جدًا في هذه النقطة إذ يقول: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))، ولربما كانت مشكلتنا الكبرى كمسلمين حاليًا في التفريق ما بين الدين والدولة، فحتى هذه اللحظة كل تعريفاتنا واصطلاحاتنا وتصوراتنا حول هذا الأمر مشوشة تمامًا، فلا أدري ما هو التعريف الاصطلاحي الحقيقي “للدولة الإسلامية” ؟ وسيكون التشوش أكبر حين نرى أن كل تيار إسلامي له تعريف خاص به، ثم هل بالإمكان أن تتقبل الدولة ككيان سياسي أن يكون لها دين ؟ ومن الذي قال بأن الدول الأموية والعباسية مثلًا كانت دولًا إسلامية حسب اصطلاحاتنا الحديثة للدولة الإسلامية ؟ مع أن علماء الدين الإسلامي طوال تاريخ الأمة بعد فترة الخلفاء الراشدين لم يكن لهم أي وزن سياسي معتبر، وهنا يجب التأكيد على كلمة “وزن سياسي” وأقصد بذلك أنه لم يكن لهم أي اشتراك حقيقي في صنع القرار السياسي في هذه الدول بعد الخلافة الراشدة، وقد كان ينحصر دور فئة منهم في إصدار فتاوى تتماشى مع سياسة الحاكم، إذن يبدو لي أن القضية كلها تتمحور حول إعادة مراجعة كل هذه الأفكار، إذ يجب علينا بدايةً أن نضع تعريفاتٍ واضحةً للدين والدولة، وأن نعرف العلاقة بينهما بشكلٍ واضح، وأن نقوم باستحداث نظام سياسي ثم اقتصادي وفقًا لذلك، وأن نجدد خطابنا الثقافي والفكري كي نستطيع مجاراة البشرية اليوم وما وصلت إليه من تطور مفاهيمي، وهذا كله لن يتأتى بالطبع إلا بعد ثورة فكرية أزعم أننا نقف على أعتابها اليوم وستحتاج الكثير من الوقت حتى تنضج.
بالنسبة لي فإن الدولة الإسلامية هي الدولة التي تهتم بتطبيق القيم والمُثل العليا للإسلام من العدل والمساواة والحرية وغير ذلك، وإذا تم تطبيق هذه المُثل في دولة غالبية سكانها من المسلمين وكان الحاكم مسلمًا فلا شك حينها أن تكون الدولة إسلامية، ولا شك أن إسلامية الدولة تزيد وتنقص بمقدار زيادة ونقصان تطبيق هذه القيم والمُثل، أما ربط المصطلح ببعض المظاهر فهذا يعبر حقيقةً عن تسخيف وتسطيح القضية وهو ما يحصل بسبب سطحية الفكر الإسلامي اليوم.
يجب هنا أن أؤكد على ضرورة دراسة كل التجارب الناجحة في العالم، واقتباس الكثير منها، لأن المعرفة البشرية تراكمية بحد ذاتها، ولأن الإنسان لا يمكن أن يبدأ من فراغ، ولربما كانت هذه النقطة غائبة عن كثير ممن حاولوا أن يضعوا أسسًا فكرية جديدة لهذه الأمة.
أخيرًا، تغير الأمم وتبدل أحوالها لا يكون بين يوم وليلة، فلا نتوقع مثلًا أن نستيقظ يومًا ما لنرى نظامًا عالميًا قد سقط ليحلّ محلّه نظامٌ آخر! لا شك أن هذا ضربٌ من ضروب العبث، فالأفكار تحتاج وقتًا كبيرًا كي تنضج، والجهد الفكري عمومًا هو جهد أجيال وليس جهد أفراد، ولذلك فإن الوقت ما زال مبكرًا لسقوط النظام العالمي الحالي، ولكن أهمية مثل هكذا مقال في هذا الوقت هو تسليط الضوء على المشكلة الأساسية التي نعاني منها، فالقضية الفكرية هي أزمة الأمة الأخطر اليوم ولا بد أن تكون هناك جهود كبرى لحل هذه الأزمة.