ترجمة وتحرير نون بوست
وفقًا لإعلان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، فرنسا اليوم في حالة حرب مع الدولة الإسلامية، حيث تعتبر فرنسا الحركة الإسلامية، المعروفة أيضًا باسم داعش، على أنها أكبر عدو لها اليوم.
فرنسا تحارب على الخطوط الأمامية جنبًا إلى جنب مع الأمريكيين في الشرق الأوسط، وهي الدولة الغربية الوحيدة التي شاركت في معارك الساحل الأفريقي (الساحل الأفريقي يشمل كامل المسافة من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي فيقع في أجزاء من إريتريا، السودان، تشاد، النيجر، مالي، وموريتانيا)، والتزامها في هذه المعركة، ظهر لأول مرة في مالي عام 2013، عندما أرسلت عددًا هائلًا من القوات المسلحة إلى هناك يفوق عدد القوات الأمريكية.
في ليلة الجمعة، دفعت فرنسا ثمن ذلك، ومنذ ذلك الحين، تدفقت الرسائل التي تعبر عن التضامن من جميع أنحاء العالم الغربي، ولكن مع ذلك، مازالت فرنسا تقف بغرابة لوحدها ضمن المشهد، فحتى الآن، لا توجد دولة أخرى تتعامل مع تنظيم داعش على أنه أكبر تهديد إستراتيجي لعالم اليوم.
ترى الجهات الفاعلة الرئيسية في الشرق الأوسط بأن أعداءها يتمثلون بخصوم آخرين أكثر أهمية من داعش؛ فالعدو الرئيس لبشار الأسد هو المعارضة السورية، والتي أصبحت الآن أيضًا الهدف الرئيس لروسيا التي تدعم نظامه، والأسد يستغل على أرض الواقع عدم فتح جبهات حرب حقيقية مع تنظيم داعش، ليروج لنفسه على أنه الحصن الأخير ضد الإرهاب الإسلامي، وليستعيد شرعيته التي خسرها في عيون الغرب إثر قمعه العنيف لشعبه.
من جهة أخرى، الحكومة التركية واضحة للغاية في تحديد عدوها الأول، الذي يتمثل بالنزعة الانفصالية الكردية، فنصر الأكراد السوريين على تنظيم داعش قد يوفر لحزب العمال الكردستاني (PKK) الملاذ الذي يحتاجه لاستئناف نضاله المسلح ضد تركيا.
بالمقابل، لا يسعى الأكراد، سواء في سورية أو في العراق، لسحق تنظيم داعش بقدر ما يسعون للدفاع عن حدود استقلالهم الذاتي المغتنمة حديثًا، فهم يأملون بأن يزداد انقسام العالم العربي، ويريدون الاستيلاء على سنجار لأنها منطقة كردية، في الوقت الذي يحجمون فيه عن مهاجمة الموصل، لأن ذلك يعني تدخلهم في أوراق بغداد، بمعنى آخر، بالنسبة لأكراد العراق، الخطر الرئيسي يتمثل بخروج حكومة مركزية قوية في بغداد، لأن وجودها سيتحدى استقلال كردستان العراق المفروض بحكم الأمر الواقع اليوم، ومن هذا المنطلق، فإن وجود تنظيم داعش يقف في طريق إنشاء أي قوة من هذا القبيل.
على صعيد آخر، وبغض النظر عن الضغوط التي يواجهونها من أمريكا، لا يبدو بأن شيعة العراق مستعدون للموت بغية استعادة الفلوجة، فهم سيدافعون عن الحدود الطائفية، ولن يسمحوا بسقوط بغداد، ولكنهم ليسوا في عجلة من أمرهم لإعادة الأقلية السنية إلى قلب التيار السياسي الرئيسي في العراق، لأنهم إن فعلوا ذلك، فسوف يضطرون لتقاسم السلطة معهم.
بالنسبة للسعوديين، العدو الرئيسي ليس داعش، وذلك بالنظر إلى أن التنظيم يمثل شكلًا من أشكال التطرف السني الذي لطالما دعمته المملكة، لذلك فإنها لا تمارس أي فعل إيجابي لمحاربة داعش، وعلى أرض الواقع العدو السعودي الأساسي يتمثل بإيران.
الإيرانيون من جانبهم، يريدون احتواء داعش، ولكنهم لا يسعون بالضرورة لتدميرها، لأن وجود التنظيم يقف حائلًا دون عودة أي تحالف سني عربي، وهو الأمر الذي كلفهم فيما سبق حربًا ضروسًا ومتعبة مع العراق في عهد صدام حسين.
ومن ثم هناك إسرائيل، التي لا يمكنها أن تكون أكثر سعادة وهي ترى حزب الله يقاتل العرب بالتلازم مع انهيار سورية وغرق إيران في مستنقع حرب لا نهاية واضحة لها، مما يلفت أنظار الجميع عن القضية الفلسطينية.
باختصار، لا يوجد لاعب إقليمي على أهبة الاستعداد لإرسال قواته، أو شحذ حراب بنادقه، لدخول حرب برية لاستعادة الأراضي من داعش، وهذا الأمر يشمل أيضًا، وعلى عكس فترة ما بعد تفجيرات 11 سبتمير، الولايات المتحدة، التي تعتمد اليوم على إستراتيجية شن الحرب من بعيد، معولة أساسًا على توجيه ضربات جوية؛ فواشنطن لا تحوز أي إرادة سياسية لإرسال قوات برية، وخطة احتواء داعش بالنسبة لها قائمة على قتل الإرهابيين عن طريق القنابل والطائرات بدون طيار.
المنطق العسكري يقول بأنه لا يمكن كسب حرب بدون تدخل قوات المشاة على الأرض، ومن هذا المنطلق، وحدها فرنسا ترغب ربما بتدمير وإبادة داعش، ولكنها لا تملك الوسائل اللازمة لخوض مثل هذه الحرب على جبهتين، في منطقة الساحل الأفريقي والشرق الأوسط.
رغم أن فرنسا تفتقر للوسائل التي تسمح لها بالرقي إلى مستوى طموحاتها، إلا أنه من حسن حظها بأن تنظيم داعش يفتقر أيضًا لتلك الوسائل، فتمامًا كما كان الأمر مع تنظيم القاعدة سابقًا، يسعى داعش من خلف نجاحاته للوصول على نحو متزايد إلى عناوين الصحف، والاستيلاء على انتباه وسائل الإعلام الاجتماعية، وهي الغاية التي حققها حتى الآن بنجاح.
إستراتيجية داعش تقوم على مبدأين أساسيين، التوسع الإقليمي السريع والخاطف، وسياسة الصدمة والترويع، وعلى الأرض، بالكاد يمكن توصيف تنظيم داعش على أنه “دولة إسلامية”، فخلافًا لطالبان، لا يهدف التنظيم للتقيد بحدود إقليم أو منطقة معينة، بل هو أشبه بخلافة إسلامية، تعمل على تحقيق الفتوحات للأبد، احتلال أراضٍ جديدة، وحشد المسلمين من جميع أصقاع العالم، تمامًا كالحركة التوسعية الإسلامية التي ظهرت خلال القرن الإسلامي الأول، وهذه الميزة استقطبت الآلاف من المتطوعين، الذين فُتنوا بفكرة القتال لإعلاء شأن الإسلام العالمي، بدلًا من الجهاد لاغتنام قطعة محددة من منطقة الشرق الأوسط.
إستراتيجيًا، وصل تنظيم داعش اليوم إلى حدود توسعه القصوى، فلا يوجد المزيد من المجالات التي يمكنه أن يتمدد لاحتلالها من خلال الزعم بأنه يدافع عن السكان العرب السنة؛ ففي الشمال هناك الأكراد، وإلى الشرق شيعة العراق، وفي الغرب العلويون المحميون الآن من قِبل الروس، وجميع تلك الفرق تقاوم تمدد داعش، أما في الجنوب، فلا اللبنانيون، الذين يشعرون بالقلق إزاء تدفق اللاجئين السوريين، ولا الأردنيون، الذين لا يزالون يعانون من إرهاصات حرق الطيار معاذ الكساسبة، ولا الفلسطينيون، سيستسلمون لسحر أفكار داعش؛ إذن، وبعد محاصرته إقليمًا من التمدد في الشرق الأوسط، يندفع داعش بتهور اليوم ليصوغ نوعًا من الإرهاب العالمي.
الهجوم ضد حزب الله في بيروت، الهجوم ضد الروس في شرم الشيخ، وهجمات باريس، جميعها تخدم ذات الهدف، الإرهاب، ولكن كما أثار إعدام الطيار الأردني الحس الوطني حتى بين السكان غير المتجانسين في الأردن، ستحوّل هجمات باريس المعركة ضد داعش إلى قضية وطنية، وحينها سيصطدم التنظيم بذات الجدار الذي اصطدم به تنظيم القاعدة من قبله، الإرهاب المعولم ليس أكثر فعالية، من الناحية الإستراتيجية، من عمليات القصف الجوي دون نشر قوات على الأرض، وتمامًا كتنظيم القاعدة، داعش لا يحوز دعمًا ضمن القاعدة المسلمة للشعب الأوروبي، بل إنه يجند فقط الأشخاص الهامشيين.
والسؤال الذي يقف أمامنا الآن، كيف يمكن أن نترجم الغضب الذي أثارته هجمات يوم الجمعة في باريس إلى عمل حقيقي على الأرض؟ قيام القوات الغربية بعملية برية واسعة النطاق، كالتي أُجريت في أفغانستان في عام 2001، تبدو خطوة غير واردة، أقله تبعًا لكون هذا التدخل الدولي سيغرق في مستنقع صراعات محلية لا نهاية لها، وبالمثل، يبدو الهجوم المنسق من قِبل القوى المحلية احتمالًا بعيدًا أيضًا، نظرًا للاختلافات بين أهداف ودوافع هذه القوى، والحل يتطلب إبرام اتفاقًا سياسيًا بين الأطراف الإقليمية، بدءًا من المملكة العربية السعودية وإيران.
بالتالي الطريق أمامنا طويلة، ما لم يسقط تنظيم داعش فجأة تحت وطأة غرور طموحاته التوسعية، أو جرّاء التوترات المتصاعدة بين مجنديه من الأجانب والسكان العرب المحليين، وفي جميع الأحوال، يبدو أن أسوأ عدو للتنظيم، هو التنظيم ذاته.
المصدر: نيويورك تايمز