يخلد المجتمع الطلابي يوم الثلاثاء 17 نوفمبر 2015م، الذكرى السنوية السادسة والسبعون لـ “ربيع براغ الأول” الذي اندلعت شرارته في عاصمة تشيكوسلوفاكيا في نوفمبر من العام 1939م، وفي المتن منه يحتفي العالم كذلك باليوم العالمي للطلاب، الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة لجلب اهتمام الأجيال المتعاقبة إلى حدث بارز، ولإدامة الاحتفاء به عبر ربوع العالم، خاصة وأنه يمثل لحظة من لحظات الإسهام الكبير للحركة الطلابية الأوربية التي مارت بها الأرض مورًا وسارت بأحاديث عجيب صنيعها وعظيم مقاومتها الركبان والصحف وذاكرة الأجيال.
اليوم، وبعد مرور عقود من الزمن يتأبى زمن الانتفاض التشيكوسلوفاكي على النسيان أو التأبير والتجيير، رغم تنامي مظاهر غمط اللقطة الثورية واستحصاد الحدث من مخيال وذاكرة الحركة الطلابية العالمية، إلا أن هذه الأخيرة تمكن الحدث (كل سنة) من عودة وجودية وزورة تاريخية، لينتصب تاليًا على المسامع وفي المجامع حديث الرفض والعصيان المدني السلمي، حيث كان الطلاب في طلائع الرافضين والثائرين على سياسة النظام النازي المتطرف، الذي أراد توسيع مجاله الحيوي بضم تشيكوسلوفاكيا وغصب حق شعبها في الاختيار الأيديولوجي والانتماء الجغرافي، الأمر الذي أثار حفيظة الشعب وقواه الحية، وحرك الفئة الطلابية والشبابية وقدمها لتصدر زمن المقاومة والممانعة، فأقبلت الحركة على تنظيم محطات تعبوية ومسيرات وأشكال احتجاجية هائلة في العاصمة براغ، وواجهت من قِبل جنود وشرطة الاحتلال النازي بما لا يتصور؛ قتلًا وتهجيرًا وإبعادًا في أقبية السجون، وترحيلًا عن الديار.
وقد كان لعملية الاغتيال البشع الذي تعرض له المناضل الطلابي (جون أوبلاتيل) يوم 13 نوفمبر الدور الأكبر في اهتياج الحركة الطلابية وتصاعد وتائر مقاومتها للاستعمار، وتبني برنامج وطني للتحرير، الأمر الذي استدعى من جبابرة النازية الرد بأعتى وأقسى ما يستطيعه نظام مرتزق ظالم لتصفية شعب ثائر مقاوم، فأقدم على تعطيل الحياة العلمية للطلاب والتلاميذ بإغلاق المدارس والمعاهد وباقي مؤسسات التعليم العالي، ومطاردة رموز الانتفاض الطلابي وقتل (9) أفراد منهم، وترحيل أكثر من 1200 طالب آخر إلى معسكرات النازية، منهيًا عمله الإجرامي بتصفيتهم أجمعين يوم 17 نوفمبر 1939م.
وفي الوقت الذي ظن الاستعمار النازي أنه قد ضرب الحركة الطلابية في مقتل، وأن الفورة قد هدأت والثورة قد سكنت، كما ظنها من بعده طغاة غلاظ شداد في فرنسا وبولندا ومصر والجزائر وغيرها، أشرقت أرواح شهداء انتفاضة (براغ)، وأينعت قطرات دمائهم أشجارًا لها طلع نضيد من الإصرار والاستماتة والاستبصار، عبر مختلف ربوع العالم، فصارت للحركة الطلابية العالمية أبعاد واسمة في جدار التاريخ، عبر مطالباتها المتكررة بالحرية والعدالة والديمقراطية، وأضحت المعادل الموضوعي في معركة الصراع من أجل التحرر والاستقلال والنهضة، نعم؛ لم يكن لها أن تحصل امتيازات ومكتسبات لصالح الطلاب والشباب وللجامعة والمعرفة دون نيل أقساط من المعاطب والمظالم والحتوف والانقماع، لم يكن لها لتصبح غرةً في جبين الزمن لولا فدائها مبادئها وقيمها ومثلها بالغالي والنفيس، بالضحايا والشهداء والمعطوبين والمهجرين، لقطات وصور من الحزن والضنك بعضها فوق بعض، لنا فيها نتف من المعاني والقيم، تشكل العدسة اللاصقة على العين المتبصرة في ملامح حاضر طلابي راشد ومستقبل طلابي – شبابي ناهض.
ونحن اليوم إذ ننخرط في تخليد هذه الذكرى، ذكرى المبادئ والمثل، ذكرى مناهضة الطغيان وتحرير البلدان، ذكرى الإسهام النضالي الملتزم بقضايا المجتمعات، ذكرى الطالب الإنسان، لا معدى لنا من ادعاء وصل بها (الذكرى)، وبتاريخ الحركة الطلابية العالمية والعربية المجيد – وهي تقر لنا بذلك -، ولا منأى لنا من تقدير نفاسة الخط الذي اتبعناه والمنهج الذي اجترحناه والإسهام الذي قدمناه والإقلاق الذي في حق مناوئينا أحدثناه، والمقصد الذي ابتغيناه، نحن اليوم وغدًا، نميط الرين على الوجه الصبوح للطلاب، ونجدد الانتهال من أنهر الصمود المتدفقة، ونتمحل الرضاعة من نفس ثقافة المقاومة، ونحفظ تاريخًا حافلًا ناجزًا ومؤثرًا في بنية التاريخ المعاصر وتاريخ البنيات الذهنية، ونحفر عميقًا في وعي أجيال نخشى أن تنسى مع كرور الأيام أن من بين أيديها ومن ورائها أعداد من المناضلات والمناضلين استفرغوا الوسع لإصلاح الجامعات ورقي المجتمعات، وتغيير العوائد السياسية وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
إن ما تقوم به حركة طلاب ضد الانقلاب اليوم في مصر الشهيدة، سعي جديد وخطو أكيد لإعادة بناء الحركة الطلابية على قواعد السيرة الأولى، حركة رافضة لحياة الإقطاعية والاتباعية، مطالبة بمجتمع مدني قوي ومتماسك، وبجامعة وطنية حرة ومستقلة، وبدولة ذات إرادة سياسية منسجمة مع تطلعات ورغبات التيار الأساسي للأمة، ورغم ضروب البطش والتنكيل التي تطالها؛ إلا إنها أصرت على رفع راية العصيان، وانتزاع الحياة من بين أضالع الطغاة، طلاب كثر لقوا حتفهم على يد ظلام فتاكين في هذا العالم، من منشوريا إلى المكسيك مرورًا بالعالم العربي، أعداد عدها الله ونسيناها، انتفضت واحتجت واقترحت، فأعدمت وغيبت؛ بأي ذنب قتلت؟
إن مسيرة الصمود والإصرار على العيش الكريم، فوق تراب وطن يتسع للجميع، وفي ظل دولة عادلة، وضمن مجتمع متضامن متراحم قوي وحر، وفي إطار ثواب جامعة ونظام تعليمي أصيل ومتجدد وجامعات وطنية قائدة لقاطرة التنمية، وطلبة أكفاء مقدمون في بلادهم ومدعومون في مجالات تخصصاتهم، (هذه المسيرة والمطالب) ستظل أس الفعل النضالي والترافعي للحركة الطلابية في كل مكان، وإن اعترتها لحظات انكفاء وقهقرة فسرعان ما تستأنف المعاودة والنفضة والتجذيف ضد تيار التراخي والانزواء ولغة الإغراء، يدلل على مقدار صحة هذه الدعوى؛ توثب الحركة الطلابية في أكثر من قطر لممارسة أدوارها الطبيعية في السياق الغربي والعربي المعاصر، مثال ذلك انتفاض رافضي سوء التوزيع العادل للثروات في المكسيك، ومبدعي ثورة المظلات في هونغ كونغ، ورائدي السلمية من حركة طلاب ضد الانقلاب في مصر، ومنسقي الجهود المدنية من حركة طلاب بلا حدود في أوروبا، ومحصني الذاكرة وحماة الأرض من حركة شباب ضد المستوطنات في فلسطين، وقائدي مشروع التجديد الشامل للعمل الطلابي والشبابي ومطلقي نداء الاستئناف الحضاري للجامعة والمجتمع والوطن والأمة في المغرب..
إن الحركة الطلابية وطلاب العالم الأحرار ينسجمون اليوم مع سنة التداعي في اللحظة، مستحضرين قيم التجرد والوفاء والعطاء بلا حدود التي انسبغ بها مسار عدد من الحركات الطلابية المكافحة (المحتجة والمنتجة)، متذكرين سياقات وانتصارات وانعطافات وتأثيرات ومؤامرات اعترضت الحركة الطلابية طوال مسارها ومسيرتها، متأملين فيما سطرته من ملاحم بطولية ضد عدو خارجي أو مستبد داخلي أو منحرف عن المنهج وضال عن الطريق، دونما اغتمام بما حدث من تزوير للأخبار وتغييب للأحرار وتحريف للمسار وإعطاب للإطار، سيبقى – ولا شك – وصمة عار في سجلات وحوليات أولئك الساسة والمتواطئين والعملاء والمدسوسين وزمرة المخدوعين الذين دبروا مكائد ومصائد لإقبار الحركة الطلابية.
معشر الطلاب:
في عيدنا الطلابي هذا، من عامنا النضالي والدراسي هذا، نجدد الوفاء لدماء الشهداء، ونقطع على أنفسنا العهد بأن نظل طلاب علم ومعرفة، لا نناصر في الباطل أحدًا ولا نفتئت على ذي عمل وإنجاز وتغيير أولًا، وطلاب انتماء لمبادئ ومرجعية وأهداف وفكرة، وعطاء للوطن والمجتمع والجامعة وشريحة الطلاب، وارتقاء في سلم المواقف والقيم الخالدة ثانيًا، سنواصل السير في الطريق الصحيح وفق منهج قويم وبسلوك سليم، طريق بسط الأسئلة الصحيحة، طريق الأقوال المنتجة للممارسة، طريق المدافعة العلنية ضد التطييف والتزييف والتجزئة والاستبداد، بلا مهادنة لسائر محاولات الاستبدال والمصادرة أيًا كان موطنها، نازعين إلى تكتيل الجهود وإشاعة مناخ الصدقية في الممارسة العملية للطلاب، متكاتفين جميعًا من أجل تحالفية كفاحية بين الحركة الطلابية العربية – الإسلامية والعالمية، لنظل – بحق – صوت شعوبنا للتحرر، سواعد أممنا للنهوض، وعناوين عز في كل الأزمنة.
بصوت جهير نجدد التذكير: يا طلاب العالم، يا رواد الحرية.. اتحدوا.