معركة الوعي هي المعركة المقدسة التي من نتائجها الحتمية هو التغيير، تغيير الفكر والحياة والكون كله.
الثورة الفرنسية لم تحدث إلا بعد معركة وعي طويلة من فلاسفة ومفكرين ومبدعين وخطباء وقفوا بنواصي الطرقات زرعوا في وجدان الشعب الفرنسي الوعي والمعاني وانتشلوه من وهم السلطة والكنيسة وسحر إعلامها الزائف.
الشعوب العربية مريضة بشكل مزمن في وعيها وهذا نتج عنه كل مظاهر التخلف التي نعيشها من الصراعات الطائفية والفكرية إلى الصراعات السياسية، إن سيطرة الأمية والجهل على كل مناحي الحياة والعقيدة وصل لمداه الوعر، وقد يكون الخلل الذي أصاب أو ضرب وعي أمة الإسلام ضربة قاضية هو الظلم والظالمين لأن الظلم خلل في كل نظم الحياة وتعطيل للقدرة وإهدار للعمر وتضييع للفرص الذهبية، أمة غافلة يكيد لها الكائدون ويدبرون لها بالليل وهي غافية في سابع نوماتها وإن ناديت لا يسمعون وإن جهرت لا يفقهون وإن أعلنت لا يصغون.
فهل نجلد أمة غافلة لتستيقظ وتفيق مثل كل الأمم أم نعذرها بسبب الظلم الشديد والاستعمار الأجنبي وكل هذا سد منيع ضد الوعي والنور، لأنه ببساطة الحاكم الظالم المستبد ضد الوعي والتعليم والفلسفة يجعل من الجهلة قضاته وعلمائه ويجعل من التافهين النجوم والمشاهير، فكيف يحكم أمة يقظة وتتركه يظلمها ويستبد أمرها لنفسه ولحاشيته، ولكنه يضطهد العلماء والفلاسفة وكل رواد الوعي الحقيقي في البلاد لأنه يدرك طالما أستمر تزييف وعي الناس طالما أستمر نظامه، وجمال عبد الناصر هو أبرز نماذج تزييف الوعي في الأمة كلها ولو تحدثنا باستفاضة عن الشعب في فترته سنجده مسخ كذبيحة في يد جزار أو كالميت في يد مغسله، كان الشعب يتقافز كالنسانيس بلا دراية ولا فهم ولا وعي، كانت أرضه تنتهك وجيشه يباد وهو بالشوارع والمقاهي فرح مسرور محبور يرقص ويهلل كالسكران.. أي جريمة هذه؟!
والقرون المديدة من الاضطهاد والظلم جعلتنا في مأزق فظيع وخلل مريع فالعلماء والفلاسفة زهدوا في توعية الناس، والناس كرهوا وتعودوا على الزيف وبرعوا في التعايش معه، واختلطت عليهم وعلينا الأمور فصارت المهمة صعبة؛ فترسخ لدي الفلاسفة والعلماء والمثقفين أصحاب الوعي أن العوام لهم مقاييسهم المتخلفة، انزووا وخافوا وقنطوا من رحمة الله وتكبروا أحيانًا على الناس، فرضوا بالأستوديوهات المكيفة والقنوات الفضائية، وتركوا للعوام دينهم، فالمنتصر عندهم هو الحق، والقوة وحدها هي الحقيقة، وكل ما يقوله الحاكم مقدس وكل ما يفعله السادة هو الصواب وأي فتوة يفوز نهتف له “اسم الله عليه اسم الله عليه”، كما قال نجيب محفوظ في رواية أولاد حارتنا: “إنهم يهتفون للمنتصر أيًا كان المنتصر، ويهللون للقوي أيًا كان القوي، ويسجدون أمام النبابيت يداوون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم”، وكما قال الكواكبي: “العوام هم قوَة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريمًا، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيمًا”.
وأقول أن دين العوام هو الثوابت، إن الشبق لصنم ملموس، ولوثن نراه، لشخص نحمله عاتق مسؤوليتنا وأمانتنا، لشيء واضح كل الوضوح، موجود لدي العوام مما لا فقه لهم ولا علم، وهم في ذلك ملومين ومعذورين أيضًا.
قد نستسلم لهذا المفهوم الخطير ونرضى بحياة بائسة زائفة تعيسة غير حقيقة ونرضي ونقول العوام اعتادوا أن يحيوا في خرق وخبل “مفيش فايدة”، ولكن تجربة العالم المتقدم بدلت هذا وكسرت لدينا مفهوم أن الظلم راسخ والزيف مقرر والعوام هم عماد الظالم وأن الفلاسفة لا يريدون دفع ضريبة وعي الناس والعوام، وهنا لابد أن نشير أن معركة الوعي هي أهم المعارك في تاريخ البشرية ولا يوجد تغيير كبير في العالم إلا وكان نتيجة لمعركة الوعي والحقيقة.
وهنا نشير إلى الشعب البريطاني ووعيه الذي يبهرنا نحن الشعوب البائسة المظلومة بينما كان تشرشل قائد بريطانيا في الحرب وتقدم لحكم بريطانيا رفض الشعب البريطاني هذا، وكان هناك وعي “عام” لدي الشعب البريطاني رفض تشرشل وعرفوا أن من كان قائدًا فذًا في المعركة ليس لزامًا أن يكون حاكمًا جيدًا في الحكم، هذا شيء وذاك شيء آخر، وهنا ننبهر نحن البؤساء بوعي الشعب العام وتقريره لمصيره مع قائد انتصر لهم بالحرب العالمية، وهنا نعيد الذكر أن التجارب والتعليم والوعي ورواد الوعي في الشعب هم الأساس للوصول بشعب مثل الشعب البريطاني لهذا المستوى المبهر بالنسبة لنا وقد خسر القائد العسكري الكبير تشرشل في الانتخابات.
وكم نحتاج نحن وخاصة المصريين إلى معركة وعي حقيقي لمواجهة سحرة وكلاب السلطة والمال الذين هم من يتولون لجام شعب مزيف وعيه اليوم، وهنا معركة جديدة للثورة المصرية وهي المعركة الوحيدة التي قد تنقذ ما يمكن إنقاذه وهو توعية الشعب وريادة هذه المعركة بشتى الطرق والوسائل.
سنتكلم عن تجربة خطيرة لتزييف الوعي وهي السيرة الظاهرية لركن الدين الظاهر بيبرس، وبيبرس هذا شخص مملوك تم أسره وجلبه لمصر وكان من رجال أقطاي ونجم الدين أيوب وقد أبلى بلاءً حسنًا في معركة المنصورة وعندما حكمت شجرة الدر كلفته هو والمماليك بقتل توران شاه ابن الملك ثم انتشر خبر قتل شجرة الدر للقائد أقطاي وتولية أيبك حكم مصر حسب رغبة العباسيين، هرب بيبرس إلى الشام وعندما قُتل أيبك وقُتلت شجرة الدر وخلا الأمر لسيف الدين قطز الذي أخذ يجهز الجيوش لقتال المغول؛ انضم للجيش وأبلى بلاءً حسنًا بالرغم من منافرته للقائد قطز الذي تولي بنفسه قتل أقطاي قائده القديم.
بدأت وشايات الأمراء بقطز الذي وعد بيبرس بحكم إمارة بالشام وأخلف وعده وولى غيره وأدرك أن قطز سيفتك به ويقتله عند رجوعهم لمصر فبادر هو وقتله وولي المماليك الحكم لبيبرس عندما علموا أنه قاتله وهنا رسخت فكرة الحكم لمن غلب لدى المماليك.
بيبرس كان يبحث عن شرعية لحكمه طوال حياته، أعلن الحرب على الصليبين والمغول، ثم أعلن قيام الخلافة العباسية بالقاهرة بعدما انتهت ببغداد، بدأ يتقرب من الشعب بالعطايا ويكرم العلماء والفقهاء، وهذه شيمة التزم بها كل مملوك وكلما زاد شعوره بعدم شرعيته زاد من هذه الأفعال إن أراد البقاء وكان لديه همة.
سنتكلم هنا عن الوعي الذي بثه بيبرس ورجاله للمصريين عبر إعلامهم وشعرائهم على الربابة ليصبح بيبرس أسطورة مصرية للحاكم الغالب الظاهر، ونندهش أن بيبرس وإعلامه زيف وعي الشعب بالكامل لدرجة أن لا أحد يعرف أن هناك قائد اسمه قطز حتى، وكان الجميع موقن أن بيبرس هو من حارب المغول وحده ودمرهم وحده ولا يوجد شيء اسمه قطز لولا أن الأخبار كتبت ذلك ما كنا لنعرف، وهنا نتذكر طبعًا محمد نجيب أول رئيس لمصر وكيف حاول عبد الناصر طمس ذكره طوال حكمه ، ونعرف أن الزيف جريمة لا تقل عن القتل بل أبشع لأنك تقتل الشعب وهو حي ببساطة.
ولنطرح لكم نموذج السيرة الظاهرية “إعلام بيبرس”
تبدأ السيرة بعبارات دينية تقول:
“الحمد لله الحق المبين، المحسن البر الأمين، السلام الذي سلم عن العقب والزوجة والبنين، الذي آمن به كل شيء”، ثم تنتقل بعد ذكر بعض الوقائع الخيالية في بغداد إلى فقرة تصف مسير هلاون (هولاكو) إلى بغداد وصفًا شيقًا: “فسار الملعون هلاون في ستين ألف من الفرسان وكلهم يعبدون النيران دون الملك الديان، راكبين خيول مثل الغزلان وساروا يقطعون البراري والوهاد، طالبين أرض بغداد”
دخول بيبرس القاهرة من باب النصر
ويظهر الظاهر بيبرس في الملحمة أول ما يظهر كغلام مريض ذليل محتقر اسمه محمود العجمي “لا يأكل ولا يشرب ولا ينام من شدة المرض والأسقام”، ولكن أميرًا يدعى “أيدمر” وتاجر مماليك السلطان الصالح أيوب واسمه في السيرة “الخواجة علي ابن الوراقة” عطفا عليه وأدركا من ذكائه وفصاحته أنه أمير من أولاد الملوك من أرض خوارزم فأكرماه واعتنيا به إلى أن فتحت شهيته واشتاق لأكل “كشكًا بالدجاج”، ومع مرور الوقت شفي وصار محترمًا ومهابًا، وتتوالى الأحداث في السيرة إلى أن يسمع بيبرس عن مصر من وزير يدعى “نجم الدين البندقداري” الذي وصفها له قائلًا: “هنيئًا لمن سكن فيها، وأظلته سمائها، وسقاه نيلها، لم يخلق مثلها في البلاد، ففيها المساجد وفيها الأهرام التي لم يخلق مثلها في البلاد، وفيها العلماء والأدباء والشعراء”؛ فتعلق قلب بيبرس بها وذهب إليها مع نجم الدين ودخل القاهرة.
وبعد مضي الأيام في القاهرة تبناه الملك الصالح وزوجته فاطمة أي شجرة الدر بعد أن وضع الصالح القبضة بينه وبين بيبرس وقال له: “ياولدي هذا عهد الله شهد الله علينا أنك ولدي وأنا والدك”، ثم أخذه إلى شجرة الدر ووضع القبضة بينهما، وتروي السيرة أن محمود (بيبرس) كان الابن الأصغر لملك يدعى “شاه جمك” وأن والده قرر أن يوليه حكم البلاد فحقد عليه أخواه وائتمرا لقتله فهرب منهم، ولما التقى بهما بعد مضي بعض الوقت ربطاه وألقيا به في حفرة فأخذه منها رجل وباعه لعلي بن الوراق، طبعًا الخلط بين قصة بيبرس وقصة سيدنا يوسف عليه السلام واضح.
تصف السيرة السلطان الصالح أيوب بأنه رجل زاهد من أولياء الله الصالحين من ذوي الكرامات، لا يأخذ شيئًا لنفسه من بيت المال ويسترزق من جدل الخوص وصنع القفف، ويعيش على الدقة والقراقيش، وتلقبه بـ “الملك الصالح أيوب ولي الله المجذوب”، أما زوجته فتسميها السيرة بـ “السيدة فاطمة شجرة الدر”، وتصفها بالصلاح والتدين والذكاء، وهي تخاطب بيبرس بـ “ابني” وهو يخاطبها بـ “أمي”، وتشير السيرة إلى أن شجرة الدر كانت ابنة لخليفة يدعى “المقتدر”، قضى المغول على ملكه في بغداد، وأنها سميت بشجرة الدر لأن أبوها الخليفة أهداها ثوبًا من الدر فلما ارتدته صارت تشبه شجرة من الدر، ولحبه لها منحها مُلك مصر، فلما ذهبت إلى مصر مطالبة بحقها في الملك تزوجها الملك الصالح وتمكن بذلك من البقاء على عرش مصر معها.
أما أعداء بيبرس الذين يكيدون له في السيرة فهم أيبك التركماني وزير الملك الصالح الذي كان ملكًا على الموصل ثم ذهب إلى مصر طمعًا في مُلكها بعد أن قال: “أنا أولى بمصر وحكمها من هذا الملك (الصالح أيوب)”، وقلاوون، وبطريرك صليبي يدعى “جوان” كان قد تسلل إلى أرض مصر وعينه الصالح قاضيًا للقضاة على أنه شيخ كبير اسمه “صلاح الدين العراقي” كان جوان قد أسره وتعلم منه الفقه والشريعة ثم قتله وذهب إلى مصر متنكرًا في زيه، وكان جوان يحرض الملوك الصليبيين ضد المسلمين ويشجعهم عن طريق مزاعمه الكاذبة بأنه يتلقى تطمينات ووعود من السماء تؤكد أنهم سينتصرون على المسلمين.
وتظهر في السيرة مجموعة من أصدقاء بيبرس وأعوانه الذين يساعدونه في محاربة أعداء المسلمين، من أبرزهم شخص يدعى “جمال الدين شيحة “، وهو رجل ذو قدرات عجيبة على التنكر والتخفي وتقمص الشخصيات، وكان يهوى الاستيلاء على القلاع وامتلاكها، وهو شيحة الذي تنسب إليه الملاعيب في المثل الشعبي المصري الدارج “ملاعيب شيحة” وتجد شخصية شيحة تتردد في أغلب السير فهناك شيحة أيضًا بالسيرة الهلالية، إضافة إلى شيحة هناك أيضا “سليمان الجاموس”، والأسطى “عثمان بن الحبلة” سايس بيبرس، و “إبراهيم الحوراني” المعروف بالسرعة الخارقة في العدو، والفداوية أولاد إسماعيل.
وتسخر السيرة من الشخصيات الصليبية وأعداء بيبرس فتمنحهم أسماءً تهكمية مثل: أبو الشر، سرجويل المهري، ظنيط، العايق عكرتر، عقيرب، حبظلم بظاظا.
أما في السيرة فإن معركة المنصورة وما تبعها من أحداث تأخذ شكلًا مختلفًا، في السيرة – وهي تراث شعبي خيالي – تبدأ المعركة بورود رسالة من صاحب دمياط إلى الملك عيسى (توران شاه) يستغيث فيها من جيش صليبي جرار يقوده أربعة ملوك ومعهم جوان وسيف الروم عند دمياط، فقام توران شاه بإرسال أيبك إليهم بقوات للقضاء عليهم، ولكن أيبك عاد إليه مهزومًا قائلًا: “غلبنا الكفار بكثرتهم ونهبوا أموالنا ودوابنا، وحمدنا الله الذي كتب لنا السلامة والهرب من بين أيديهم”.
فاستشار الملك عيسى (توران شاه) وزير أبيه “شاهين” فقال له شاهين ناصحًا: “إن أردت نصرًا مؤزرًا أيها الملك فعليك بالأمير بيبرس فقد كان أبوك (أي الصالح أيوب) يعتمد عليه بعد الله في قتال الأعداء”، إلا أن بيبرس كان في السجن بسبب دين عليه، فأفرج عنه توران شاه وأمر بكتابة حجة بأن بيبرس يتولى الملك من بعده، وسار بيبرس ومعه توران شاه وعسكروا عند دمياط، ثم انهزم الصليبيين وفروا إلى المنصورة حيث قامت معركة كبيرة انتهت بهزيمتهم وفرارهم إلى فارسكور فتبعهم بيبرس وجنوده، وفي أثناء المعركة أمر توران شاه ببناء برجًا خشبيًا ليتابع المعركة من فوقه، إلا أنه راح يشرب الخمر.
بيبرس يترك المعركة ويذهب إليه طالبًا منه التوقف عن شرب الخمر، إلا أن توران شاه وهو يبعد الكأس سقط من البرج ومات لساعته فعاد بيبرس إلى ميدان القتال وهزم الصليبيين، وبعد انتهاء المعركة اتهم الأمراء بيبرس بقتل توران شاه “فأسلم بيبرس أمره إلى الله الذي لا تخفى عليه خافية، وتوسل إليه أن ينجيه من القوم الظالمين”، عندئذ ظهر فارس خرافي اسمه “ضاع اسمه ولم يجده” وأعاد الحياة للسلطان الميت لبضعة لحظات قال فيها للحاضرين: “يا إخواني عليكم بتقوى الله وطاعته، واعلموا أن بيبرس برئ من دمي براءة الذئب من دم يوسف”.
تبع تبرئة بيبرس من قتل توران شاه صراع على الملك بين أيبك الذي طمع في الحكم وشجرة الدر التي معها حجة من أبيها الخليفة السابق بأن البلاد بلادها والملك ملكها انتهي باعتلاء شجرة الدر عرش مصر ومعها الأمير بيبرس نائبًا ووكيلًا لها، ولكن الخليفة الحالي في بغداد لم يوافق على اختيار امرأة حاكمة على البلاد فردت شجر الدر: “ليس في القرآن ما يمنع النساء من ولاية أمور المسلمين، ولكني متنازلة عن الملك مختارة، فولوا من تشاءون من الرجال”، وأشار العلماء إلى الاقتراع بين أيبك وبيبرس، وفاز أيبك بالقرعة ووافق بيبرس على تولية أيبك لكن بشرط “ألا يبرم أمرًا، أو يفعل شيئًا إلا بأمرنا”، وهكذا صار أيبك سلطانًا على البلاد، إلا أن عامة المصريين كانوا كارهون له ويسخرون منه، فاشتكى إلى أصحابه “بشتك” و”سنقر” و”قلاوون” و”علاء الدين” قائلًا لهم: “لقد طفح صدري غيظًا من بيبرس، وسخرية الناس بي، لأنهم يحبونه”.
ثم طلب أيبك من بيبرس بناء طريقًا تحت الأرض من القلعة إلى بيته حتى لا يراه الناس في غدوه ورواحه، فوافق بيبرس بشرط أن يكتب له حجة بأن يكون الملك له من بعده، فكتب له أيبك الحجة، وبعد أن انتهى بيبرس من تشييد الطريق قال له أيبك: “يا بيبرس، إني أريد أن أتزوج من أمك السيدة فاطمة شجرة الدر”، وطلب منه أن يخبرها بطلبه لأنه كان يعلم أنها كانت قد توعدت بقتل من يخبرها بطلب أيبك الزواج منها، ولكن الملك الصالح أخبرها في حلم أن توافق على ما سيخبرها به بيبرس، فلما أخبرها بيبرس بطلب أيبك قبلت شجرة الدر الزواج منه ببضعة شروط من ضمنها أن يكون كل مالها لابنها بيبرس.
وتزوج أيبك من شجرة الدر ولكنه ظل يحقد على بيبرس و يتآمر عليه مع أعوانه، إلى أن تزوج “سالمة البدوية”، واتهم شجرة الدر وبيبرس بوجود علاقة آثمة بينهما، فانتابتها نوبة عصبية حادة، ولما نامت جاءها الصالح أيوب في الحلم مرة أخرى وأمرها بقتل أيبك بالسيف، فلما استيقظت أحضرت السيف وضربته به فراح يصرخ مستنجدًا بابنه أحمد (المنصور علي)، ولكن عندما وصل أحمد إلى الغرفة كان أيبك قد فارق الحياة، فهجم على شجرة الدر ولكنها أفلتت منه وهرولت فراح يطاردها إلى أن سقط بها سور سطح القلعة فهوت وماتت، ثم أتى الوزير شاهين والحراس وقبضوا على أحمد وألقوا به في السجن.
بذلك فإن السيرة التي تتعاطف مع شجر الدر نسجت قصة خيالية حول ظروف زواجها من أيبك وقتلها له (زوجها المتوفي الصالح أيوب أمرها بالزواج من أيبك ثم فيما بعد بقتله)، وكتب الوزير شاهين إلى بيبرس، الذي لم يكن في مصر، يخبره بوفاة أيبك والسيدة شجرة الدر، وحزن بيبرس حزنًا شديدًا لموت أمه وعاد إلى مصر وزار قبرها، ثم تولى حكم مصر وحارب الصليبيين وهزمهم وقتل عدوه جوان.
وهكذا فإن سيرة الظاهر بيبرس منحت شرعية شعبية لحكم السلطان بيبرس، من جهة فهو يحكم في مُلك أبوه وأمه وكم قاسى الويلات كما قاسى سيدنا يوسف، ومن جهة ثانية برأته من تهمتي ضلوعه في مؤامرة قتل السلطان توران شاه، ومؤامرة قتل السلطان قطز الذي لم يأت ذكره في السيرة أصلًا؛ وهكذا زيف وعي أجيال كاملة لا تعلم الحقيقة عاشت في ظل حكم قاتل غادر على أنه بطل وشجاع ومبارك وابن الملوك.