يخطئ الاحتلال الإسرائيلي عندما يظن أن الشعب الفلسطيني قد أُعدم وسائل المقاومة والنضال، وأنه بات عاجزًا عن ابتكار وسائل جديدة وطرقًا مختلفة ليواجه صلفه، ويتحدى إجراءاته، ويتصدى لسياساته، وينتصر على التحديات التي يضعها، والصعاب التي يفرضها.
أو أنه يأس نتيجة الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية، والإجراءات العقابية، ومحاولات التحصين والعزل التي يطبقها العدو في مناطقه؛ والتي جعلت من كيانه غيتو أمنيًا معزولًا، محصنًا بالجدران، البوابات، الأسلاك الشائكة، البوابات الإلكترونية، كاميرات المراقبة، وأجهزة التنصت والتسجيل والتصوير، وعمليات التفتيش والتدقيق التي يمارسها على المواطنين الفلسطينيين، والتي تبدو في أكثرها مذلة ومهينة، وقاسية وصعبة، أمام عشرات الحواجز الأمنية التي ينصبها بين المدن والبلدات الفلسطينية، وعلى مداخل وبوابات مدنه ومستوطناته، حيث يُوقف أمامها الفلسطينيين في طوابير كبيرة، ينتظرون الساعات الطويلة، قبل أن يسمح لبعضهم بالدخول، ويمنع كثيرًا غيرهم من المرور، ولو كانوا مرضى أو نساء، أو رجالًا وأطفالًا، بحجة الاحتياطات الأمنية، والإجراءات الاحترازية.
يعتقد الكيان الصهيوني أنه بإجراءاته هذه سيمنع الفلسطينيين من القيام بأي عمليات مقاومة ضده لاستعادة الحقوق، أو ردًا على الانتهاكات والخروقات، أو انتقامًا من أعمال القتل والمصادرة، وصدًا لسياسات الإغلاق والمصادرة، والاجتياح والاعتداء، وأنه بذلك سيكون حرًا في تنفيذ سياساته وسيمضي قدمًا في قمع الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وأنه سيكون واثقًا من أن أحدًا لن يقوى على صده أو منعه، وأنه اتخذ من الإجراءات الاحتياطية، والخطوات الاحترازية ما من شأنه إحباط أي محاولة فلسطينية للمقاومة أو الهجوم، وأن استعداداته باتت قادرة على إجهاض أي عملية قبل وقوعها، إذ إن أجهزته الأمنية حاضرة وساهرة، يقظة ومنتبهة، وتعمل ليلًا ونهارًا، تستقصي وتجمع المعلومات، تتجسس وتراقب وتتابع، وتتنبأ وتتوقع، مما سيجعل من الصعب على أي فلسطيني اختراق التحصينات أو تجاوز العقبات.
فقد نجحت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتعاون والتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية في جمع السلاح من أيدي الفلسطينيين، وجردتهم من أي سلاح غير شرعي استنادًا إلى اتفاقية أوسلو؛ التي تجيز لأجهزة السلطة الرسمية فقط حمل واقتناء الأسلحة المسموحة والمبينة الأنواع، والمعروفة القدرات والمميزات، فلم يعد في أيدي الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية أسلحة نارية، تمكنهم من المقاومة أو القيام بأعمال عسكرية تهدد الكيان وتضر أمنه، وتلحق به خسائر في الأرواح والممتلكات.
كما أغلقت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مناطقها على السكان الفلسطينيين، ومنعت دخولهم إليها، وعقدت تنقلهم، وأصبح جميع حملة الهوية الخضراء، وهم سكان الضفة الغربية، ممنوعين من الدخول إلى مناطق الكيان الصهيوني، فالحواجز المنتشرة تمنعهم، والإجراءات الأمنية تحد من أعدادهم، والتجهيزات والمعدات الموجودة بحوزة الأجهزة الأمنية تستطيع أن تكشف نسبيًا عن كثير من الأسلحة والممنوعات، والتصاريح المسموحة لبعضهم قليلة، ومن الصعب الحصول عليها، وقد يخضع بعضهم للمساومة والابتزاز، خاصة ذوي الحاجات وأصحاب الضرورة الملحة.
كما قامت المخابرات الإسرائيلية باعتقال المئات من المطلوبين والنشطاء والمشتبه بهم من مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، ممن تظن أن لهم ميولًا للمقاومة، وعندهم رغبات واضحة في تنفيذ عمليات عسكرية، وأنهم يخططون ويستعدون، يتدربون ويتأهلون، يتصلون ويتواصلون، تصلهم مساعدات وأموال، ولديهم مراجع وعندهم مهمات، وساعدها في ذلك قيام أجهزة أمن السلطة باعتقال آخرين ومحاكمتهم بتهم مختلفة؛ الأمر الذي أدى إلى نضوب في العناصر المقاومة، وانحسار في قدراتها الميدانية على الأرض وتراجع في أدائها العام.
كما نفذ العدو الإسرائيلي بحق المقاومين وذويهم إجراءات عقابية وانتقامية قاسية جدًا، فهدم بيوتهم، رحل أسرهم، حكم على المنفذين بأحكام بالسجن قاسية، غرّم أسر الأطفال وراشقي الحجارة غرامات مالية عالية جدًا، وتتبع المحرضين والحاضنين، والداعمين والممولين، وضيق عليهم؛ فأغلق مؤسساتهم، وصادر أموالهم، ومنعهم من مزاولة أعمالهم، وفرض على السلطة الفلسطينية أن تنوب عنه في ملاحقة ومراقبة المطلوبين والمشتبه بهم.
ظن الإسرائيليون أن إجراءاتهم قد نجحت، وأن سياستهم المعتمدة آتت ثمارها المرجوة، وأن المقاومة قد يأست فعلًا، وأن رجالها قد أحبطوا، نتيجة الإجراءات الأمنية القاسية المتبعة، أو بسبب الإخفاقات المتكررة، والفشل الذي منيت به مجموعاتهم العسكرية، ما جعل قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية يعتقدون أن الضفة الغربية أصبحت منطقة آمنة خالية من السلاح ولا وجود فيها لمجموعات مقاومة، ورفعوا تقاريرهم إلى قيادتهم السياسية ليطمئنوهم أن سكان الضفة الغربية باتوا تحت السيطرة، وأن عناصر الخطر وفتائل التفجير قد نُزعت كلها.
الفلسطينيون الذين قاوموا بالحجر والمدية والسكين، وبالمعول والفأس وقضبان الحديد، ثم زنروا أجسادهم بالمتفجرات، وفجروا أنفسهم وسط الصهاينة، واستطاعوا أن يعملوا كمائن، يزرعوا العبوات، ويلقوا القنابل، ثم نجحوا في الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين، وأوقعوا في صفوفهم خسائر عديدة، وتمكنوا من أسر جنود ومستوطنين، ونجحوا في إخفائهم والابتعاد بهم، وعجز الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية عن الإمساك بهم، أو تحريرهم من أيدي خاطفيهم.
اليوم يبتكرون في انتفاضتهم الثالثة وسائل للمقاومة جديدة، وسبلًا للغضب والثورة مختلفة، أرعبت الإسرائيليين وأخافتهم، وأربكتهم وأقلقتهم، فانفضوا من الشوارع، وابتعدوا عن الأرصفة والممرات، وتوقفوا عن التجمع والتجمهر، وامتنعوا عن الجلوس في المقاهي والاستراحات العامة، المطلة على الشوارع والطرقات السريعة، ولم يعودوا يستخدمون ” الأوتو ستوب”، فلا يركبون سيارة عابرة، ولا يقبلون بمساعدة تُعرض عليهم، لتقلهم إلى أماكن عملهم، أو منها إلى بيوتهم، وأصبحت كل سيارة أو حافلة تسير بسرعة مقبلة أو مدبرة، وكل جرافة أو دراجة، وأي آلية متحركة أخرى، يقودها فلسطيني عربي الوجه والسحنة، وكأنها تهم بدهسهم، وتنوي قتلهم وسحق أجسادهم.
أصبح كل فلسطيني في عيون الإسرائيليين مشروع مقاوم، واحتمال استشهادي، فقد يحمل سكينًا أو مدية، أو يخفي مسدسًا أو قنبلة، أو يبدي استعدادًا للانقضاض بنفسه، والعراك بجسده، والاشتباك بيديه، ثأرًا وانتقامًا مما يرتكبه الإسرائيليون بحقهم.
الفلسطينيون لن يعدموا وسيلة للمقاومة، ولن يشكوا عجزًا عن المواجهة، ولن يتوقفوا عن التفكير والإبداع، بل سيقاتلون بكل ما يملكون، وبما يقع تحت أيديهم ويتوفر لهم، ولن يدخروا عن المعركة شوكة ولا إبرة، لا سكينًا ولا مدية، لا سيارة ولا عربة، لا دعاء ولا كلمة، لا حرفًا ولا طلقة، ولا صاروخًا ولا قنبلة، وستمضي انتفاضتهم، وستتواصل مسيرتهم، وسيتحقق نصرهم، ولم يكون إلا ما كتب الله لهم، نصرًا عزيزًا أو شهادة كريمة.