يمشي عبد الله رويدًا بينما ينثر بذور القمح من يده إلى قطعة أرضه الصغيرة، والتي يسشتعر بقدميه العاريتين كم رطبة هي بعد هطول شديد للأمطار، سعيدًا بما قدمته السُحُب، إذ كانت الأرض قبل شهر واحد جافة كأنها قطعة من الأسفلت، وهي مشكلة يعاني منها عبد الله منذ مدة، ولا تنفع معها حتى الأسمدة الصناعية؛ فالأرض تزداد جفافًا ويتجه لونها للرمادي، وهي تنتج كمية محصول أقل مع كل حصاد جديد، كما أنها تحتاج للماء دومًا بشكل غريب مهما أغرقها عبد الله بما يفترض أن يكفيها.
في الحقيقة ليس هناك ما يمكن أن يفعله عبد الله، الفلاح البسيط بكفر الشيخ الواقعة في قلب الدلتا، ولا أحد هنا يمكن أن يشكي له مما يجري للأرض، فهو يستمر في الزراعة على أي حال مع زوجته وولده الصغير، لينثروا البذور ويحرثوا الأرض، ثم يحتسوا الشاي وينتظروا ما ستجود به كما يقول، “الحصاد سيكون بعد خمسة أو ستة أشهر، ولكن الفدان الواحد بعد أن كان ينتج 18 أو 20 أردبًا، سينتج هذه المرة غالبًا عشرة فقط.”
عبد الله ليس وحده بطبيعة الحال وإلا ظننا أن أرضه هو بالتحديد فاسدة لسبب كامن فيها، فالدلتا كلها، والتي أطعمت كل أهل المنطقة من القاهرة إلى روما يومًا ما، تكفي اليوم بالكاد لإطعام الفلاحين القائمين عليها، وكثير منهم كعبد الله قد يلوم نوعية الأسمدة الصناعية أو ربما سوء الحظ، ولكن الأسباب الحقيقية أكبر من ذلك وأكثر خطورة، وهي لا تتعلق بالأرض بشكل مباشر ولكن بالبحر المتوسط الواقع إلى شمالها حيث تصب مياه النيل في النهاية.
بين المالح والعذب
نتيجة للاحتباس الحراري الذي يؤثر على كافة أنحاء الأرض، ويرفع متوسط درجة الحرارة عالميًا، ويذيب أجزاء معتبرة من الجليد في القطبين، تعاني البحار كلها من ارتفاع حرارتها، وارتفاع منسوبها جراء كميات المياه الجديدة القادمة إليها، وهي في حالة البحر المتوسط مياه مالحة تتمدد ببطء إلى الدلتا المنخفضة، وتتسلل رويدًا إلى مياه النيل، حيث يتوقع مع نهاية هذا القرن أن تكون 60% من منطقة الدلتا مشبعة بالأملاح لدرجة تجعلها غير قابلة للزراعة، كما أن 20% منها أصلًا ستغمرها المياه بالفعل، وفي ذلك الوقت، وما لم توجد خطة واضحة للبحث عن حل، فإن ثلثي الغذاء في مصر سيغرق تاركًا نفس النسبة من السكان دون طعام.
مصدات المياه الأسمنتية الرباعية على شاطئ بلطيم، المبنية عام 1992 لمنع زحف مياه البحر، لم تمنعه ولكن أبطأت منه فقط، واختفاء معظم أجزاء الصف الأول تحت الرمال الواضح هنا يثبت ذلك، وهو ما يعني في نهاية المطاف تفوق المياه على المصدات خلال 30 أو 50 عامًا
ليست مياه المتوسط فقط هي التي ستجلب المتاعب مستقبلًا لمنطقة الدلتا، بل وتزايد الاعتماد على مياه غير مياه النيل الملوثة للزراعة، فمع ظهور المصانع التي تلقي بمخلفاتها الكيميائية والصناعية في النيل، أصبحت المياه مع وصولها للدلتا مجرد سائل يغلب عليه اللون البني وتبدو ملوثة بوضوح مع النظر لها، وهو ما يدفع البعض لحفر آبار بحثًا عن الماء النظيف، كما يفعل عبد الله مع جيرانه، حيث يديرون مضخة تجلب المياه الجوفية عبر لقنوات إلى أراضيهم معتمدين على طبقة دلتا النيل الجوفية الممتدة من القاهرة وحتى البحر المتوسط.
للوهلة الأولى يبدو أن تلك فكرة جيدة، ولكن هذا الضخ المستمر في الواقع يعجّل من وفاة منطقة الدلتا، كما يقول لنا بدر مبروك أستاذ الهيدرولوجيا بجامعة الزقاقيق، فجذب المياه من الطبقات الجوفية يخلق ضغطًا يشد البحر ناحية الدلتا أكثر، وهي مسألة تُضاف أصلًا إلى المشاكل التي تعاني منها الطبقات الجوفية نتيجة ارتفاع مستوى البحر، وكل ذلك يرجع لطريقة عمل الطبقات الجوفية وديناميات تفاعلها مع البحر ومياهه، والتي يشرحها لنا مبروك.
تقوم الطبقات الجوفية ناحية الساحل بحجز مياه البحر تحت السطح عند نقطة معيّنة تسمى المنطقة الانتقالية (Transition Zone)، بما يؤدي لتراجع المياه المالحة الأكثر كثافة ناحية المحيط، وبقاء المياه العذبة على السطح، وتلك المنطقة الانتقالية مرهونة ببقاء البحر والطبقات الجوفية عند نفس المستوى، أما إذا ارتفع مستوى البحر، أو انخفض مستوى المياه العذبة، فإن تلك المنطقة تتحرك أكثر ناحية الشاطئ وما وراءه من أراضي، لتجلب مياه البحر أكثر تحت الأرض، وهو ما يحث بالفعل وبسرعة شديدة في الدلتا، كما يقول مبروك، نتيجة حصول الأمرين معًا؛ ارتفاع سطح البحر المتوسط، وتراجع مستويات المياه العذبة نتيجة استغلالها عبر آبار الفلاحين.
التفاعل بين الأرض (إلى اليسار) والبحر (إلى اليمين) يُظهر في الحالة العادية غلبة المياه العذبة تحت الأرض (وهي المياه الجوفية) مع بقاء المنطقة الانتقالية عند الشاطئ، وتراجع المياه المالحة ناحية البحر
كل تلك التحذيرات من تغول المياه المالحة قديمة في الواقع، وتكلم عنها المئات من علماء البيئة والجيولوجيا والمناخ، غير أن الإدارة الموجودة في مصر لا تهتم بها بالطبع وسط هيمنة الملفات السياسية والاقتصادية الرئيسية، لتتراجع البيئة في سلم أولويات الحكومات المصرية، وهي حكومات قصيرة النظر، ولا تنظر بعيدًا حيث يتوقع أن يحدث تغير المناخ تأثيرًا ملموسًا بعد عشرين عامًا فقط، كما يقول حسن حسيني، المتخصص بإدارة المياه بمعهد بحوث البيئة المستدامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
“إن شاء الله”
الحكومة ليست وحدها في قصر النظر، فالكثيرون من العاملين والفلاحين بتلك المنطقة مجبرون على الانغماس في تدبير قوت يومهم بشكل لا يتيح لهم معرفة ما يجري، أو إدراك الأسباب البيئية الكامنة خلفه، فأبو غالي، أحد الفلاحين بكفر الشيخ أيضًا، لا يعرف أن زحف المياه سيظل مستمرًا لعقود، “ارتفاع منسوب المياه لن يستمر كثيرًا إن شاء الله.”
من جانبها كانت الحكومة قد دشنت مركز بحوث الشواطئ عام 2009 بمساعدة الأمم المتحدة لإنشاء “نظم متكاملة لإدارة المناطق الساحلية،” عن طريق بناء حواجز من المواد الطبيعية في بعض المدن، غير أننا الآن وبعد ست سنوات، وإنفاق حوالي أربعة ملايين دولار، لا نرى سوى وقوع اختيارها على موقع لبدء مشروع تجريبي لتلك الفكرة، مع عروض مقدمة من الشركات للعمل في الموقع بالفعل، دون أي تحرك على الأرض أو تنفيذ لحاجز واحد في أية نقطة بشمال الدلتا.
إن كان تباطؤ الحكومة مفهومًا في مصر، وانشغال الفلاحين وعدم إدراكهم لتحولات المناخ البعيدة معذورًا نتيجة أحوالهم اليومية الصعبة، فإن ما قاله أيمن الجمل، بموقعه كنائب لمدير مركز بحوث الشواطئ، يُعَد مفاجأة من العيار الثقيل، فالرجل يعتقد أن النماذج الخاصة بتغير المناخ متشائمة أكثر من اللازم، كما أنه لا يؤمن أصلًا بأن ظاهرة تغيّر المناخ التي أحدثتها نشاطات البشر الصناعية ظاهرة حقيقية، “الأرض كوكب ذكي، ويمكن أن تأخذ الطاقة إلى داخلها وتعيد إخراجها، أما من يقولون أن هناك احتباس حراري أو تأثر في طبقة الأوزون.. لا لا، الأرض أكبر من كل ذلك،” هكذا يقول أيمن بابتسامة واثقة.
بالتبعية، ومن موقعه المهم في المركز، لا يقوم أيمن سوى بمتابعة ارتفاع منسوب المياه، والذي يقول أنه لا يمكن التنبؤ بالضبط بمعدلاته بل وليس مهمًا التنبؤ أصلًا، وبالتالي لا فائدة من التخطيط لأكثر من عام أو عامين لمواجهته، وهو أمر ليس غريبًا إذن على رجل يعتقد بأن التغيرات المناخية ظاهرة طبيعية وعادية، ليكون كل ما علينا هو جمع المعلومات وحفظها دون اتخاذ أية خطوات جادة.
وضع الدلتا بحلول العام 2100 إذا ما ارتفع منسوب المياه في البحر المتوسط بمتر، اثنين، ثلاثة، أربعة أو خمسة
خلال أيام سيجتمع قادة العالم في قمة ضخمة مرتقبة في باريس لمناقشة خطط مواجهة تغيّر المناخ، ووضع قيود جديدة على انبعاثات الغازات الدفيئة (التي تزيد من حرارة الأرض) لتحل محل بروتوكول كيوتو القديم، والذي نظم تلك المسألة وألزم الدول بقواعد معينة خلال السنوات الماضية وسينتهي عام 2020، غير أن المؤتمر لن يناقش على الأرجح شؤون بلدان بعينها، ناهيك أن تكون بلدان غير مهتمة بعواقب تغيّر المناخ.
في كل الأحوال، ستحتاج مصر عاجلًا أم أجلًا خطة واسعة وبعيدة المدى، وإلا اضطرت لمواجهة الكوارث الواحدة تلو الأخرى خلال عقود، وربما قبل 2050، لا سيما وأن مؤتمر باريس لن يتخذ إجراءات تلغي تغير المناخ، وهو أمر مستحيل الآن بالنظر للصناعات المنتشرة في كل مكان، ورغبة بلدان عديدة في الاستمرار بتحديث صناعاتها وزيادة إنتاجها وتنمية اقتصادها، ولكنه سيؤدي فقط لاتفاق يُبقي على درجة الحرارة الدافئة للكوكب عند درجتين فقط زائدتين عن درجة الحرارة في عصور ما قبل الصناعة، وهما درجتان سترفعان من مستوى البحار على أي حال.
خلال المرحلة الراهنة، وعلى غرار ما تقوم به الحكومة، بل وحتى مسؤولين في جهات تتعامل بشكل مباشر مع ملف المناخ كما رأينا، فإن العالم يتعامل مع مصر من نفس المنظور الذي ترى به نفسها، ويركز على الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية ليس إلا، دون أن يحاول أحدهم الضغط من أجل الانتباه لمسألة المناخ رغم علم الجميع بأهميتها، فإن لم يكن صاحب الشأن مباليًا فلا أحد قطعًا سيحمل عنه أعباء التخطيط لمستقبله البعيد.
أبو غالي، مزارع المانجو بكفر الشيخ، والذي قد تداعب أشجاره السماء بينما تسبح في المياه من أسفل خلال ثلاثة عقود، يدافع بنفسه عن النظام القائم، قائلًا أنه لا يجب أن تفعل الحكومة كل شي بنفسها، “السيسي مشغول بتدبير الوظائف للناس أولًا، ومن ثم سيساعدنا.. إن شاء الله.”
هذا المقال منقول بتصرف من نيوزويك