أشعل مقتل خمسة عشر سودانيًا على الحدود المصرية فتيل أزمة جديدة بين مصر والسودان، إلا أن الفارق هذه المرة أنها تحمل بعدًا شعبويًا تتصاعد وتيرته طرديًا مع الانتهاكات المتتابعة للحكومات ليدفع مواطنو الدولتين ثمنًا باهظًا من تفكك اتحادات الشعوب التي لم تكن السلطة يومًا سببًا في ترابطها.
الخرطوم تقول للقاهرة “لن نقبل”
ظهر صدى هذا الأمر سريعًا في شوارع الخرطوم، حيث علق بعض أصحاب المحلات لافتات مكتوب عليها “ممنوع دخول المصريين والكلاب”، في حين ظهرت لافتة أخرى بمحتوى “كرامتنا أهم.. لا لمصر”، أما على مواقع التواصل الاجتماعي فقد كان الأمر أشد ضراوة حيث ظهرت حملات هي الأولى من نوعها بين البلدين وأشهرها حملة “لا تسافر لمصر” و”قاطعوا مصر.. الكرامة أولى”، وطالبت حملات أخرى المُلاك وأصحاب الأعمال بطرد المستأجرين والعمال المصريين وحثوا جمهور الناس بالاعتداء عليهم في الشوارع والحافلات العامة وأماكن التجمعات والعمل، كما نادى بعض المثقفين وأعضاء المجالس النيابية بإلغاء اتفاقية الحريات الأربع والتي تم التوقيع عليها في 4 أبريل 2004، وأشارت الديباجة إلى أن الاتفاق يستند إلى توجيهات القيادة السياسية العليا في البلدين، ترسيخًا لمفهوم الشراكة التكاملية الإستراتيجية النافذة والمستدامة والتي عبرت عنها اللجنة العليا المشتركة.
وقد خطى الجانب السوداني خطوة استباقية بتطبيقه الكامل لحريتي التنقل والإقامة، وهذه مكاسب حقيقية لصالح الجانب المصري، بجانب محدودية المكاسب التي تحققَّت للجانب السوداني بتطبيق حرية التنقل والإقامة بصورة متدرجة وبطيئة، أما حريتي التملك والعمل، فإن اختلاف القوانين حال دون تنفيذهما بالنسبة للسودان ومصر.
والسؤال هنا لماذا كل هذا الشحن وما الذي أودى بالعلاقة بين الشقيقتين إلى ذلك الدرك؟
انتهاكات النظام تجاه السودانيين في مصر
على الجانب الآخر فإن الطرف المصري لم يكن بريئًا تمامًا؛ فهذه الحادثة لم تكن الأولى من نوعها، حيث يعاني السودانيون منذ فترة ليست بالقليلة من سوء المعاملة والاضطهاد الحكومي وتعمد الإهانة، وقد بدأت مع تاريخ الثالث من يوليو 2013 وازدادت بعد تولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم؛ حيث أصدرت عدة قرارات أثارت استياء المجتمع السوداني على رأسها الالتزام بالحصول على تأشيرة لجواز دخول الأراضي المصرية بالرغم من السماح للجنوبيين بذلك وكذلك الاستيقاف والتفتيش في المطارات والقبض على أي سوداني يحمل أكثر من 500 دولار، فضلاً عن تعذيب المقبوض عليهم على الحدود أو في العاصمة والمحافظات داخل أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز ولعل هذه الأحداث قد تعيد للأذهان كيف مات الفنان السوداني علي بهنس من البرد والجوع في أحد شوارع القاهرة موجهًا صفعة قوية على وجه الإنسانية والفن.
حادثة تعذيب الحاج زكريا وصاحبه طلال
انتشرت بالتزامن مع حملات مقاطعة المصريين كثير من صور لتعذيب بعض السودانيين داخل السجون المصرية ولعل أشهرها صور تعذيب الحاج زكريا، وقد جاءت قصته حسب رواية أخيه أنه ذهب لعلاج ابنه في القاهرة وما إن وصل وشرع في تغيير النقود للعملة المصرية حتى تم اعتقاله على أبواب أحد محلات الصرافة بطلعت حرب بعد تفتيشه وصاحبه والعثور معهما على 500 دولار و3750 جنيهًا مصريًا، وبعد اقتيادهم لقسم عابدين دون توجيه اتهامات لهم واحتجازهم يومًا كاملاً بدون السماح لهم بقضاء حاجتهم مع وصلة التشريفة بالضرب والسباب، وقد التقيا في القسم بمحتجز سوداني آخر يدعى طلال ترك والدته مريضة بإحدى المستشفيات وذهب لسحب مبلغ مالي من الصرافة أسفل المستشفي ولكنه لم يعد إليها ثانية.
ومع عرض الحاج زكريا على النيابة في اليوم الثاني وحصوله على إخلاء سبيل ظن أن الأمر قد انتهى، إلا أن الشرطة المصرية لم تنفذ قرار النيابة العامة وظلت محتجزة الحاج زكريا وصاحبه مع وصلات من الضرب المبرح في شتى الأماكن وأبشع الألفاظ وأخيرًا تم السماح له بالاتصال بأخيه بعد التوسل لهم لينقذ ابنه الذي تركه وحيدًا في الفندق وجاء أخوه على عجل بتذكرة طيران لتحمل الحاج زكريا من القسم مكبلاً بالأغلال إلى المطار حتى مغادرة القاهرة.
وقد روت أسرته أنه تعرض منذ قدم للخرطوم لحالة من الصراخ والهيستريا استدعتهم للذهاب إلى أخصائي نفسي أكد أنه تعرض لحالة اكتئاب حادة إثر شعوره بالذنب أنه ترك ابنه وحيدًا ولم يستطع تقديم أي شيء له.
الجالية المصرية بالسودان
على صعيد آخر فقد استنكرت الجالية المصرية بالسودان كل ما تقوم به الحكومة المصرية من انتهاكات بحق السودانيين وأعلنت أنها تقف جنبًا إلى جنب في صف إخوانها الذين كانوا للمصريين المغتربين نعم الأهل والصحبة، كما أكدت أن هذه الممارسات لا تعبر عن شعور الشعب المصري تجاه إخوانهم السودانيين، وإنما هي ممارسات سلطوية قميئة تهدف أول ما تهدف إلى تقطيع أواصر المحبة بين الشعوب وإزكاء روح الفتنة بين الجارتين لتحقيق مكاسب سياسية أو ممارسة ضغوط من نوع آخر.
وأكدت أن حملات المقاطعة والترحيل هي ممارسات فردية لا تحمل بعدًا جمعيًا أو شعبويًا ذا مدلول يذكر؛ إذ إن العلاقة بين البلدين عامة والشعبين خاصة أكبر من أن يعكر صفوها هذه الأحداث.
وقالت الجالية عبر صفحتها على الفيسبوك إن الذين قتلوا وعذبوا وأهانوا السودانيين هم أنفسهم الذين قتلوا وعذبوا وأهانوا المصريين، الجاني واحد والضحية واحدة، وبالتأكيد الشعب دائمًا هو المجني عليه.
كما انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي للمصريين المقيمين بالسودان منشورات تؤكد على طبيعة العلاقة بين الشعبين ورفضها ما كان من النظام، ذاكرين الكثير من الميزات الأصيلة للشعب السوداني مثل الكرم والتدين والوفاء والشهامة وحسن الجوار، ولعل أشهرها ما كتبه طالب مصري لرفيقه السوداني جاء نصها “إن ما فعله النظام الانقلابي في مصر من قتل أشقائنا السودانيين وسوء معاملة أهلنا وتعذيبهم واعتقالهم من الشوارع بمصر لا يمثلنا أو يمثل أي مصري شريف، وشعب السودان بالنسبة لنا هم أهل وأحباب والحدود تراب”.
وعلى صعيد آخر فقد نفى المتحدث الرسمي لوزارة خارجية النظام الحالي بمصر السفير أحمد أبو زيد وجود سياسة ممنهجة تستهدف السودانيين وقال إن القاهرة تدرس المذكرة التي قدمتها السفارة السودانية حول هذا الموضوع، كما قال إن ما يحدث من تفتيش هو حملات عامة على جميع الجنسيات وعمليات القبض التي تمت للبعض ارتبطت بأحداث محددة وهي مخالفات تطبق على المصريين أنفسهم، مؤكدًا أن السودانيين يعيشون منذ سنوات طويلة وهم جزء أصيل من نسيج المجتمع المصري ولا يوجد أي استهداف لهم.
كما نفى المستشار الإعلامي للسفارة المصرية بالخرطوم عبد الرحمن عبد الناصف في رده على وسائل الإعلام والصحف السودانية ما أثير حول المعاملة السيئة للسودانيين المقيمين بمصر وأكد أنه حتى الآن لا توجد معلومات رسمية تفيد بذلك.
أزمة في طريقها للحل
ظهر صوت آخر أخذ منحنى مختلف عن هذه الأجواء عبر نظرة مختلفة للأمور، حيث تبنى حملة جديدة موسعة عنوانها “لا للمساس بكرامتنا.. ولا للإساءة للمواطنين والشعبين الشقيقين”، حيث يرى مدشنو هذه الحملة أن هذه الممارسات إنما تمت بداءة لتفتيت العلاقات المتجذرة بين الشعبين، كما أنها جاءت عقابًا للشعب السودانى المتضامن مع شرعية الدكتور محمد مرسي والإخوان المسلمين، وقد كان لهذه الحملة صدى كبير على صفحات الجرائد السودانية وتبناها الكثير من المثقفين والكتاب كما جاء في مقال السيد أحمد بطران، ما مفاده أن المصريين الموجودين بالسودان أغلبهم متضررين من النظام المصري وهو يريد أن يؤذيهم ولا شك ولن نحقق له ما تمنى، وقد جاءت معظم صفحات الجرائد متضامنة مع الشعب المصري، معتذرة للشعب السوداني، ورافضة لتصرف النظام المصري.