طغت في أوساط المعارضة السوريّة في الآونة الأخيرة، لا سيّما مع التصعيد العسكريّ الروسي، روحُ انهزاميّة توحي بحتميّة فرض حلول سياسية مُعلّبة جاهزة للتطبيق، وعبثيّة مقاومة هذه الحلول أو الوقوف في وجهها، الأمر الذي أدّى إلى دخول الثورة السورية في منعطف جديد. ولا يخفى على أحد أنّه ليس أوّل منعطف حرج ولن يكون بالضرورة المنعطف الأخير.
تمكّن الثوّار من امتصاص جميع الصدمات العسكرية التي تعرّضوا لها في السابق من جيش النظام و «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني، كما تمكنت الثورة، على رغم ضعف الأداء السياسي للمعارضة السورية بشكل عام مقارنة بالأداء العسكري، من تجنّب الوقوع في عدد كبير من المصائد السياسية التي نُصبت لها رغم وجود طابور خامس كبير.
لكنّ التدخل الروسي المُترافق مع غياب الدور الأميركي المعاكس له، إضافة إلى دخول المنطقة بأسرها في مرحلة جديدة لم تكتمل ملامحها بعد، يُحتّم على الثورة السورية أن تُنجز نقلة نوعية في أدائها على الصعيدين السياسي والعسكري، وأن تقف وقفة صادقة تقيّم فيها مسيرتها حتى الآن، كي تصبح قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. فالمرحلة المقبلة مليئة بالاستحقاقات ومحفوفة بالمخاطر والمنزلقات، ولعل أول هذه الاستحقاقات قد بدأ في مؤتمر فيينا الذي يمكن اعتباره أكثر محاولة جدّية حتى الآن من المجتمع الدولي لإيجاد حل سياسي في سورية أو فرضه، ومن الخطأ النظر إلى هذه المحطة السياسيّة بمعزل عن التصعيد الروسي العسكري الأخير.
لن نخوض في هذا المقام في تحليل مستفيض لأسباب هذا التصعيد ومآلاته، فمن الواضح أنّ الهدف الرئيسي منه هو فرض حل سياسي بالقوة العسكرية بشكلٍ يتماشى مع مصالح روسيا، وفي ذلك درس عظيم للثورة السورية عن كيفيّة توجيه العمل العسكري المؤثّر وفي لحظات حاسمة لتحقيق أهداف سياسية طويلة الأمد، وهو ما عبّر عنه كلاوزفيتز بقوله: «الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى»، وهذا ما عجز عن تحقيقه الثوار حتى الآن على المستوى المطلوب. فعلى رغم البطولة المنقطعة النظير للشعب السوري والتضحيات الأسطورية في ساحات القتال إلا أنّ المردود السياسي كان ضعيفاً في غياب ثلاث ركائز أساسية تتمثّل بالاستراتيجية العسكريّة المركزيّة، والتمثيل السياسي الموحّد وأخيراً بالقيادة الموجّهة والمُلهمة للثورة.
أصبحت الحاجة ماسّة لإدارة المعركة العسكرية بطريقة مركزيّة بحيث تغطّي كامل التراب السوري وليس فقط جبهات مناطقيّة منفصلة، لا سيّما أنّ المعركة أصبحت اليوم وبعد التدخل الروسي المُباشر أقرب إلى حرب شاملة على مختلف الجبهات وفي آن واحد. وعليه يجب تحديد الأهداف الاستراتيجيّة التي ينبغي التمسك بها مهما كان الثمن وتقليل الخسائر الجانبية ما أمكن، حتى يتم امتصاص الصدمة الروسية والوصول إلى حالة الاستقرار والقدرة على الهجوم المعاكس من جديد، فالمآل العسكري للأشهر الثلاثة المقبلة سيحدّد جزءاً كبيراً ومهمّاً من مستقبل سورية والمنطقة، الأمر الذي سينعكس بطريقة مباشرة على الخيارات السياسيّة للثورة.
ولعل من نافلة القول التأكيد على ضرورة وحيويّة إنشاء تمثيل سياسي جامع للثورة، فغياب الثورة السورية، بل السوريين بشكل عام، عن اجتماعات فيينّا الذي تتمُّ فيها مناقشة مصير سورية، أمر يجب أن يستوقف المعارضة بأكملها، خصوصاً أنها ليست المرّة الأولى التي يغيب فيها صوت الثورة عن اجتماع من هذا الطراز. ومن الخطأ إلقاء المسؤولية على المجتمع الدولي فقط، فالأمر يحتاج إلى النظر في المرآة ولو قليلاً.
التمثيل السياسي الموحّد يجب أن يبدأ بخطوة أولى تجمع من جهة بين كبرى الفصائل الثورية المسلحة والتي تعتبر «إسلاميّة» التوجُّه وفصائل الجيش الحر من جهة أخرى. لقد أثبتت معارك حماة الأخيرة أن الثورة تحتاج إلى عودة الرّوح التي سادتها في أشهرِها الأولى، وأنّ التمايز بين الفصائل الإسلامية والجيش الحر والذي عملت على تعميقه أطراف خارجية لا يخدم الثورة، فضلاً عن كونه مصطنعاً في غالب الأحيان، فالفصائل الإسلامية سوريّة وفصائل الجيش الحر أيضاً مسلمة، وسورية تحتاج إلى جيش ثورتها المسلم الذي يحمل هويّة البلد ويدافع عنها.
كما يتوجّب على الفصائل الكبرى في هذه المرحلة العصيبة، سواءً على الصعيد العسكري أو السياسي، أن تعطي أولويّة كاملة للمشروع الجامع وهو مشروع «تحرير سورية» من الاحتلالين الإيراني والروسي، وتأجيل المشاريع الفصائلية إلى مرحلة لاحقة بعد أن يتحقق الهدف الأكبر. كما لابدّ من أن تُدرك فصائل الجيش الحر أنه سيتم ممارسة ضغوط كبيرة عليها من الرّوس وحلفائهم لاستدراجها إلى طاولة المفاوضات، ظنّاّ منهم أنهم بذلك سيصبحون قادرين على إجبار الثوّار على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالقوّة العسكريّة.
المخرج الوحيد من هذا المأزق لجميع الأطراف هو المسارعة إلى تشكيل تمثيلٍ سياسيٍّ موحّد، والعمل على تعميق التنسيق العسكري المركزي، مستفيدين من تجارب الماضي لتجنب النماذج المثالية التي فشلت، والتركيز على النماذج العمليّة التي يمكن أن تضمن تحقيق الأهداف المرجوّة بأسرع وقت ممكن وبأقل تكلفة.
وعليه يتوجّب أن يكون جليّاً عند الثوّار بشكل عام والفصائل الثورية المسلّحة بكافة توجهاتها بشكل خاص، أن الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الروس بشكل منفرد هو خط أحمر ومنزلق سياسي خطير، وسيكون بمثابة قبول بقواعد لعبة سياسية أُعدّت بهدف تمييع الثورة وإنهائها وفرض حلٍّ سياسيّ يضمن استنساخ النظام من جديد وترسيخ هيمنة الأقليّات على حساب الغالبية وهو نموذج قادنا إلى ما آلت إليه الأمور ويهدّد مستقبل سورية واستقرارها.
لقد انتصرت الثورة ودخلت مرحلة حرب التحرير والاستقلال، ورحلة «موظف الكرملين» بشّار الذي قادوه إلى سيّده في موسكو على متن طائرة عسكرية في جنح الليل ليعنّفه ويشرح له المستقبل السياسي الذي ينتظره، تؤكّد أن النظام الأسدي انتهى وتحول إلى «حكومة فيشي» عميلة. وهذه المرحلة الجديدة تتطلّب من قيادات الثورة أن ترتقي إلى مستوى الحدث، والأهم أن ترتقي إلى مستوى تضحيات الشعب السوري العظيم الذي ينتظر القيادة التي تليق به. كما ينبغي أن تعترف بأزمة القيادة التي عانتها الساحة الثوريّة حتى الآن، وبالأخطاء والتقصير الذي حصل وأن تقوم بمراجعة صادقة ونقد ذاتي متجرِّد، فإن عجزت الفصائل الثورية المسلحة والمعارضة عن أن تجتمع على قلب رجل واحد فلتجتمع على قلب فكرة واحدة، وهي تحرير سورية والحفاظ على هويّتها ووحدة أراضيها.
آن الأوان لأن تكون الثّورة السورية شريكاً أساسياً مؤثّراً وفاعلاً في حلفٍ إقليمي مع تركيا وقطر والسعودية في وجه ما يحاك للمنطقة، وأن يكون السوريون جزءاً من القرار وليس مجرد متفرجين، لكن هذا كلّه يتوقّف على قدرة الفصائل المسلّحة على إنتاج قيادة سياسيّة-عسكريّة جامعة ومسؤولة، تنال ثقة السوريين والمجتمع الإقليمي والدولي، وأن تعي تماماً أولويّات المرحلة وتطلّعات الشعب السوري الثائر العظيم.
أخطأت روسيا للمرة الثانية في قراءة المشهد السوري وراهنت على الحصان الخاسر، وبدأت تدرك ذلك بعد أن تورّطت في حربٍ مع ثوّار سورية، ولو أنها حاورتهم منذ بداية الثورة لكان أنجع لها. لقد انتهى النظام فعليّاً ولن ينقذه التصعيد العسكري الروسي، وليس أمام الثورة الآن إلّا توحيد صفها السياسي والعسكري والثبات على الأرض والتمسك بالخطوط الحمراء أكثر من أيّ وقت مضى. ولكل من بشّروا بانتهاء الثورة وسارعوا إلى حجز مقعد لهم في المرحلة المقبلة نقول لهم: «كذبوا! الآن، الآن جاء وقت القتال