أصبح العراق بعد الاحتلال الأمريكي ساحة لانطلاق المشاريع الإقليمية والتوسعية، إذ عملت أمريكا على نقله من حالة الدولة إلى حالة اللادولة وأرادت ذلك عن طريق إدارته بالفوضى؛ فقامت بحل الجيش والمؤسسة الأمنية والسياسية وأفسحت المجال لعصابات مُسيطر عليها من قِبل إيران لتحكم “البوابة الشرقية للوطن العربي”؛ فيُطبق بذلك مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية في حينها كوندليزا رايس بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان عام 2006 إذ قالت: “إن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب”، لا يقتصر الشرق الأوسط الجديد على تغيير الحكم في العراق، بل يتعداه إلى تغيير خارطة عدة بلدان وهي سوريا والعراق وليبيا، وهذا ما أعلن عنه وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون في مقابلة له على شبكة “بي إن آر” عندما كان في زيارة الى واشنطن إذ قال: “هل يمكنك إعادة توحيد سوريا؟ لا يسيطر بشار الأسد إلا على 25% من الأراضي السورية، وعلينا ان نتعامل مع ذلك”، وأضاف أن مصر سوف تظل مصر أما ليبيا فهي كيان جديد، كيان غربي ناتج عن الحرب العالمية الأولى، مثلها مثل سوريا والعراق سواء بسواء – دولة قومية مصطنعة – وما نراه الآن ما هو إلا انهيار للدولة للفكرة الغربية القديمة”.
سيتم في هذا المقال التركيز على العراق الذي كان احتلاله بداية تنفيذ هذا المشروع، ولا يخفى على أحد أن إيران هي اللاعب الإقليمي الأقوى والأبرز في العراق لذلك سيكون الحديث بدايةً عن النفوذ الإيراني في العراق.
النفوذ الإيراني في العراق
دفعت أمريكا بإيران بعد احتلال العراق إلى بناء نفوذ قوي لها على الأراضي العراقية بهدف إنجاح “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، وقد تم اختيار إيران لهذه المهمة لعدة أسباب أبرزها سعي إيران إلى تصدير ثورتها، وبسيطرتها على العراق يتسنى لها ذلك كون العراق السابق استطاع أن يوقف المد الثوري الإيراني وهي أكثر الدول خبرةً في التعامل مع ايران، فضلًا على تمتع إيران بعلاقات وطيدة مع السياسيين الشيعة في العراق، فقد قامت إيران في ثمانينات القرن الماضي بتشكيل أحزاب عراقية شيعية مضمونة الولاء، فضلًا عن قوتها الناعمة المتمثلة في المجالات: الاقتصادية والدينية والإعلامية.
لم تفوت إيران هذه الفرصة وقد استغلتها بشكل مثالي واستطاعت أن تسيطر على العراق سيطرةً مطلقة، إذ بسطت نفوذها على المؤسسة الأمنية والاقتصادية والسياسية واستطاعت أن تضرب وتهدد دول جوار العراق وأصبحت أقرب إليهم أكثر من أي وقت مضى.
وقد عملت طهران على توحيد الأحزاب الشيعية في العراق لكي تتمكن من ترجمة ثقل الشيعة الديموغرافي إلى نفوذ سياسي، وبذلك تعزز من سيطرتها على الدولة، وتحقيقًا لهذه الغاية حاولت إيران التأثير في نتائج الانتخابات البرلمانية بين الأعوام 2005 – 2014 من خلال تمويل مرشحيها المفضلين وتقديم المشورة لهم وتشجيع حلفائها الشيعة على خوض الانتخابات تحت قائمة موحدة لمنع تشتيت أصوات الشيعة، وقد قام وكلاء إيران الدينيون، أمثال السيستاني، بإصدار الفتاوى الموجبة للمشاركة الكثيفة في الانتخابات، كما سعت إلى الحفاظ على علاقاتها الجيدة بصفة تقليدية مع الأحزاب الكردية الرئيسة؛ لتأمين نفوذها في أجزاء من شمال العراق.
كما أنها ركزت على نسج أنشطة القوة الناعمة في منهجها الحكومي الشامل بما يعكس نفوذها في العراق، وتحقيقًا لهذه الغاية، فقد اتخذت تدابير وقائية، واتبعت سياسات تجارية لا تحقق مصلحة العراق، وحاولت السيطرة على المرجعية الشيعية فوق الوطنية التي مقرها في النجف، كما حاولت التأثير في الرأي العام العراقي من خلال أنشطة المعلومات.
وفي الجانب الاقتصادي، عززت إيران روابطها التجارية والاقتصادية مع العراق للحصول على مكاسب مالية وتحقيق القدرة على التأثير في جارتها، وقد قامت إيران بإغراق العراق بمنتجات وسلع استهلاكية رخيصة ومدعومة، وقد أدى ذلك إلى تقويض القطاعات الزراعية والتصنيعية العراقية، كما قامت إيران ببناء عدد من السدود، وتحويل الأنهار التي تغذي المجرى المائي لشط العرب، وهو ما أثر سلبيًا على قطاع الزراعة العراقية في الجنوب، وأعاق جهود إحياء الأهوار.
وفي مجال السياسة الخارجية فقد استغلت ايران العراق لتدعيم مواقفها – الخارجة عن الأعراف والقوانين الدولية -، فاستغلته في تدعيم المظاهرات الشيعية في البحرين وكذلك في دعم النظام السوري، إذ عملت بمساعدة المرجعية الشيعية في النجف على تطويع المقاتلين الشيعة وإرسالهم إلى سوريا بدعوة الدفاع عن المقدسات، بالإضافة إلى العمل على ضم العراق إلى التحالف الرباعي الذي يضم “إيران، روسيا، العراق، وسوريا” للقضاء على الثورة السورية ولمواجهة التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا والذي يضم دولًا عربية على رأسها السعودية، كما أنها دفعته لاستعداء تركيا، وهي بذلك عزلت العراق عن محيطه العربي والإقليمي وجعلت منه دولة مارقة.
كما أن إيران عملت على إزكاء المشاكل الداخلية العراقية فهي متهمة بإزكاء الصراع الكردي (الصراع الذي دار بين حركة التغيير الكردية والأحزاب الكردية الكبرى، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) الداخلي.
النفوذ التركي في العراق
تركيا في زمن حزب العدالة والتنمية تبحث عن أدوار إقليمية لها في المنطقة، فتركيا دولة كبيرة إستراتيجيًا وجغرافيًا وديموغرافيًا وعسكريًا، وهي تجاور العراق، وترتبط معه بأكثر من قضية؛ اقتصادية ومائية وأمنية وبشرية ودينية وتاريخية.
تتحرك تركيا في العراق بعدة اتجاهات؛ فعلى الجانب الدبلوماسي تمتلك عددًا من القنصليات في العراق، وعلى الجانب الاقتصادي فالشركات التركية ومسؤولوها الاقتصاديون يجوبون محافظات البلاد عرضًا وطولًا، يعقدون صفقات ويباشرون مشاريع، ويقيمون مؤتمرات، ويوقعون اتفاقيات، ويجدون أنفسهم في ملفات شائكة مثل كركوك والموصل، فيشاركون أحيانًا في حوارات تتعلق بالمحافظتين.
مصالح تركيا في العراق أكثر وضوحًا من أي طرف إقليمي أو دولي آخر، فلا روحانيات ولا عصبيات ولا أحلام مقدسة، لكن الشكل الذي سيتخذه الدور التركي والأدوات التي سيعتمد عليها والأساليب التي سيمر عبرها، هي الغامضة، ولذلك فإن ردود الأفعال العراقية والإقليمية على هذا الدور غامضة هي الأخرى.
الدور السعودي في العراق
يصعب رسم ملامح واضحة للسياسة السعودية في العراق؛ بسبب الطابع المتحفظ القائم على التكتم الذي تتسم به تلك السياسة، ولكن لا يخفى على أحد أن السعودية تحاول لجم الحكومة العراقية التي تهيمن عليها الأحزاب الشيعية التابعة لإيران.
لم تصنع السعودية لنفسها نفوذًا في العراق كالذي صنعته إيران، وهذا لا يعني انعدام الدور السعودي نهائيًا في العراق؛ فالقرب الجغرافي للبلدين يحتم على السعودية أن يكون لها دور احترازي على الأقل.
تنطلق الفلسفة السعودية من مبدأ أن الأزمة العراقية تنتهي بانتهاء الأزمة السورية التي تَصبُّ السياسةُ الخارجية السعودية جُلَّ اهتمامها عليها، بيد أن الأزمة السورية هي امتداد للأزمة العراقية، وبذلك فعلى السعودية أن تدرك أولوياتها، وأن تعمل على بناء دور ونفوذ لها في العراق، لكي يحدث توازن بين القوتين الإقليميتين(السعودية وإيران)، وعلى صانع السياسة الخارجية السعودية أن يدرك أن العراق هو الفاصل بينه وبين المد الثوري الإيراني، وأن يعمل على إيقاف هذا التمدد عن طريق إيلاء العراق اهتمامًا أكبر مما هو عليه الآن.
كما أن الخطر القادم من العراق لا يقتصر على المد الثوري الإيراني، فهناك تنظيم داعش أيضًا الذي يسيطر على محافظة الأنبار (المحافظة الحدودية مع السعودية).
إمكانية إقامة تحالف تركي سعودي في العراق
تجمع السعودية وتركيا مصالح مشتركة في العراق؛ فكلا البلدين يسعيان لوقف التمدد الثوري الإيراني ويرغبان في كبح جماح التمدد الإيراني في العراق وسوريا على حدٍّ سواء.
وهناك تناغم واضح بين السعودية وتركيا، ويعود هذا التناغم والتقارب إلى عدة أسباب: فالسعودية تخوض “عاصفة الحزم” بدعم ومساندة تركية ضد من تعتبرهم الوكلاء الإيرانيين في اليمن، “جماعة أنصار الله”، كذلك تحدّث البعض عن امتداد هذه العاصفة إلى سوريا قريبًا لوضع حد للنفوذ الإيراني في القضية السورية، التي تمثل حاضنة جهادية تقلق دول الجوار، وبخاصة بسبب جمود الموقف، لكن هذا لن يكون إلا بعد الانتهاء من الملف اليمني وترتيبه، وسيكون لتركيا دور أكبر في العاصفة السورية المتوقعة قريبًا، وهو ما بدأ يتضح فعلًا في الأيام الأخيرة؛ بعد أن قامت تركيا بتحشيد قواتها على الحدود السورية، وما تردد عن إمكانية دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية، وقد تحقَّق هذا الأمر في الأيام الأخيرة بعد أن قامت تركيا بضرب “تنظيم الدولة” داخل الأراضي السورية، وما تبعه من موافقة أنقرة على استخدام مطاراتها من قِبل قوات التحالف الدولي.
أما السبب الآخر الذي يدعو إلى التقارب التركي/ السعودي فهو القضية العراقية التي تشهد سيطرة إيرانية واضحة على ملفاتها وإدارة مجرياتها، وقد بدأ هذا الدور في التنامي بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق وترك الساحة لحلفاء إيران لإدارة المشهد العراقي، ووصل الأمر ذروته في العام الماضي بعد أن قام تنظيم الدولة بالسيطرة على معظم المناطق السنية العراقية، وقد أشار باحثون ومهتمون بالشأن العراقي إلى أن تحالفًا دوليًا وشيكًا بدأ يتكون من أجل دعم السُّنة في العراق، وتوحيدهم لمواجهة التوسع الإيراني من جهة، وتنظيم الدولة من جهة أخرى، في مناطق واسعة بالعراق، وذلك حتى لا تـُترَك قضية مواجهة تنظيم الدولة للإيرانيين وحدهم بجانب الولايات المتحدة في العراق، حتى لا تفاجأ السعودية في صباح ذات يوم أن مستعمرة إيرانية أخرى أصبحت على حدودها مع العراق، في غياب دعم السنة العراقيين.
وقد أشارت صحيفة التايمز البريطانية إلى أن السعودية طالبت الولايات المتحدة بتسليح “العشائر السنية” بهدف مواجهة تمدد “تنظيم الدولة الإسلامية” في العراق.
خلاصة القول تكمن في عدة كلمات؛ إن أزمة العراق لن تحل إلا عن طريق تطبيق نظرية توازن القوى؛ توازن قوى يشمل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية.