ترجمة وتحرير نون بوست
في الساعات والأيام الأولى بعد هجمات باريس، تحرك العالم بشغف لإبداء الدعم لفرنسا، فتواردت رسائل التضامن من شتى أنحاء العالم بقالب شفهي وبصري ورمزي، حيث تعهد الدبلوماسيون والسياسيون بالتضامن مع فرنسا، ووضع الملايين من المستخدمين على الفيسبوك وشاح العلم الفرنسي، الأزرق والأبيض والأحمر، على صورهم الشخصية، كما أُضيئت المعالم الدولية الكبرى بالألوان الثلاثة، وصدح لحن النشيد الوطني الفرنسي الحزين من الوجوه الباكية في التجمعات، ابتداءًا من ساحة ترافلغار وحتى ماديسون سكوير غاردن، “كلنا فرنسيون”، قال الحشد، بتضامن نابع من صميم قلوبهم.
ولكن رغم هذا الشعور الدافئ بالتضامن والوحدة، الواقع البارد يفترض بأن هجمات قلب أوروبا، التي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عنها، من المرجح أن تمعن في انقسامات أعداء التنظيم، بدلًا من توحيدهم، والمناقشات والمعارك السياسية ستكون حتمًا بالغة العاطفة والحدة.
مظاهر التعاطف ما زالت أكثر وضوحًا من مشاهد تبادل الاتهامات، ولكن مع تبلور الردود على هجمات 13 نوفمبر، أصبح واضحًا بالفعل أن الخلافات ستتعمق، ستزداد مرارة، وستبزغ خلافات جديدة أيضًا، وهذا المشهد سيزداد كثافة مع عملية تحول الانتباه الجارية من المشهد الكئيب للمذابح إلى الساحة السياسية.
الاختلافات في الآراء والفلسفات والإستراتيجيات والتكتيكات ستتمحور حول أربعة مجالات رئيسية، الاستجابة العسكرية والأمنية، سياسات الهجرة واللاجئين، المواقف تجاه المسلمين والمجتمعات الإسلامية، وسياسات الخصوصية والمراقبة.
الخطوط العريضة للمواجهات السياسية القادمة باشرت بالظهور على الفور تقريبًا بعيد الهجمات، حيث أضحى واضحًا بأن العزم، الناشئ حديثًا، والذي تتشاطره الدول الأوربية لتدمير الدولة الإسلامية، لم يستطع تغطية الخلافات العميقة ما بين هذه الدول، السابقة بوجودها لوقوع الهجمات.
ففي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، أن بلاده “في حالة حرب” مع تنظيم داعش، مصعدًا بذلك سبل المواجهة بشكل رسمي، أكد الرئيس الأمريكي باراك أوباما التزامه بسياسة ضبط النفس التي تقتضي محدودية المشاركة العسكرية المتعددة الأطراف ضد الجماعة الإرهابية، وجاء هذا البيان بمثابة صاعقة مفاجئة لأولئك الذين كانوا يعتقدون بأن الغرب سيتوحد ويصطف خلف موقف عسكري أكثر عدوانية لدحر وهزيمة مرتكبي الهجمات، وهو الأمر الذي انفرد بأدائه هولاند بعيد الهجمات من خلال تكثيف الغارات الجوية الفرنسية على معاقل الدولة الإسلامية في الرقة بسورية.
بعد طلب وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لودريان، من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى زيادة المشاركة العسكرية في الحملة ضد الدولة الإسلامية، توضح بأن الالتزامات التي أطلقتها دول أوروبا للوقوف بصف واحد ضمن هذه المعركة ستبقى مجرد إعلانات مبهرجة خطابية بأقصى تقدير، على الأقل بالنسبة لبعض أصدقاء فرنسا.
في الواقع، الرد العسكري على الدولة الإسلامية لا يزال اليوم موضع جدال كبير اليوم، كما كان في 12 نوفمبر، قبل وقوع هجمات باريس؛ ففي بريطانيا، سعى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لتوسيع الضربات الجوية ضد الجماعة لتشمل سورية، ولكن البرلمان البريطاني لم يأذن بممارسة أي عمل عسكري بريطاني إلا ضمن حدود العراق، وبالمقابل، تشبث زعيم المعارضة الجديد، جيريمي كوربين، برأيه المتعنت حول هذه المسألة، قائلًا إن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تجلب “المزيد من الفوضى والمزيد من الخسائر”، حتى أن كوربين انتقد قتل “الجهادي جون”، المواطن البريطاني الذي قطع رؤوس الرهائن الغربيين في سورية نيابة عن الدولة الإسلامية، قائلًا بأنه كان ينبغي اعتقاله بدلًا من قتله، وقوبل هذا الموقف بسخرية لاذعة من كاميرون، الذي ألمح بأن كوربين يعيش في عالم خيالي.
التأثير الفوري الآخر الذي بزغ إبان الهجمات يتمثل بالتصعيد الحاد للانقسامات بشأن سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين، وهو الأمر الذي ترافق مع عواقب سياسية داخلية كبيرة، حيث اكتسبت الأحزاب المعادية للمهاجرين زخمًا جماهيريًا هائلًا بعد اكتشاف أن واحدًا من منفذي هجمات باريس دخل أوروبا ضمن سيل اللاجئين السوريين الكبير القادم إلى شواطئ اليونان، حيث سلك على ما يبدو طريق دول البلقان باتجاه فرنسا.
في ذات السياق، أعلن وزير بولندا الجديد للشؤون الأوروبية، بأن حكومة بلاده المنتخبة حديثًا سترفض نظام محاصصة اللاجئين الذي تم اعتماده على مضض من قِبل دول الاتحاد الأوروبي سابقًا، قائلًا بأنه يصعب للغاية تنفيذ هذا القرار اليوم.
وفي هولندا، وجد استطلاع للرأي بأن 70% من الهولنديين يريدون السيطرة على الحدود بشكل أكبر، والأغلبية تعتقد بأن هولندا عرضة لتلقي هجوم مشابه لهجوم فرنسا، وهذه القاعدة الشعبية، عززت من مواقف حزب خيرت فيلدرز المناهض للهجرة، حزب من أجل الحرية، حيث أوضحت الاستطلاعات الأخيرة بأن الحزب يقبع فعلًا في مقدمة النتائج مع تنامي شعبيته بشكل مطرد؛ فخلافًا لآراء رئيس الوزراء الهولندي، مارك روتا، الذي لم يأتِ على ذكر الإسلام أو المسلمين أو الجهاديين في بيانه الصادر بعيد هجوم فرنسا، أعلن فيلدرز بأن الهجمات “لها علاقة مؤكدة بالإسلام”، وجدد دعوته لوقف الهجرة من جميع الدول الإسلامية، على النقيض من ذلك، قال الإمام المحلي، ياسين الفرقاني: “لا يمكننا أن نستمر بالقول بأن هذا لا علاقة له بالإسلام”، بالتزامن مع حثه للمسلمين لمحاربة الأيديولوجيات المتطرفة.
ليس هنالك من شك بأن الهجمات ستقوي من مواقف الأحزاب المعادية للمهاجرين في أوروبا، كما ستعمل على تأييد عزم الحكومات التي تحاول مقاومة الحملة التي تقودها ألمانيا في الاتحاد الأوروبي الساعية لفتح أبواب القارة العجوز أمام اللاجئين.
في فرنسا، اكتسب هولاند بعض الحماية السياسية من اليمين السياسي نتيجة لتأثير تصاعد حملة الالتفاف حول علم الجمهورية، وكذلك نتيجة لرد فعل الحكومة الفرنسية على الهجمات والتي تمثلت باستعراض القوة العسكرية، ولكن مع ذلك، تبقى قضية اللاجئين قائمة، حيث عمدت زعيمة حزب الجبهة الوطنية المعارض للمهاجرين، مارين لوبان، لاستغلال مشاعر المخاوف من المهاجرين التي طفقت حديثًا، في الوقت المناسب تمامًا قبيل الانتخابات الإقليمية.
حتى ألمانيا، المؤيدة الرئيسية لسياسة الهجرة المفتوحة، تشعر اليوم بإرهاصات هجمات باريس، حيث يشير تقرير جديد بأن مجموع العدد الكلي اللاجئين في ألمانيا سيصل إلى 1.5 مليون بحلول نهاية العام، بما يقارب ضعف التقديرات الأصلية، وبعد باريس، صرّح وزير المالية في بافاريا بأن الوقت قد حان لتعترف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأن سياساتها تجاه اللاجئين مُنيت بفشل ذريع، ودعاها للتراجع عنها؛ مما أثار موجة من الاتهامات المتبادلة داخل الحزب الحاكم.
الاقتتال الداخلي لم يقتصر على القارة الأوروبية، بل امتد عبر المحيط الأطلسي، حيث أثارت هجمات باريس انتقادات لاذعة لرئيس الوزارء الكندي المنتخب حديثًا جاستن ترودو، فضلًا عن توجيه الانتقادات لأوباما أيضًا؛ ففي كندا، تعرض ترودو للهجوم بسبب قراره بسحب الطائرات المقاتلة الكندية من ائتلاف الحرب ضد الدولة الإسلامية، وتم حثه للتراجع عن هذا القرار وإعادة النظر في خططه لقبول 25.000 لاجئ سوري، وبالمثل، اُنتقد أوباما لعدم تبنيه لموقف عسكري أكثر نشاطًا ضد الجماعة الإرهابية في سورية والعراق، وتزامن ذلك مع إعلان أكثر من 30 حاكمًا ضمن الولايات المتحدة بأنهم سيحولون دون تنفيذ القرار الذي التزمت به حكومة الولايات المتحدة القاضي باستقبال 10.000 لاجئ سوري ضمن أمريكا في العام المقبل.
هذه ليست سوى الهزات المبكرة لما سيضحى بالتأكيد بعد حين سلسلة من الزلازل السياسية المدمرة، والمناقشات حول هذا الموضوع سوف تتناول بالتأكيد أيضًا قضية الرقابة الحكومية المثيرة للجدل، والتي ستعمل على استثارة مشاعر كافة أطراف المناقشات، وفي هذا السياق، يتعين على أوروبا اتخاذ قرارات صعبة حول حدودها الداخلية المفتوحة، وأمن حدودها الخارجية.
قد يستمر الناس بترديد النشيد الوطني الفرنسي ورفع العلم ثلاثي الألوان، ولكن من المرجح أن يعبروا عن تضامنهم هذا من خلال مظاهرات تندد بالانقسامات التي ستتكثف جراء هجمات باريس، ويبقى السؤال، هل ستتمخض هجمات باريس عن توحيد استجابة الغرب؟ حتى الآن يبدو أن الأمور تجري بما يناقض ذلك.
المصدر: وورد بوليتكس ريفيو