تطرح العمليات الأخيرة لتنظيم الدول استفهامات كثيرة حول المتغير الذي دفع التنظيم للذهاب خارج حدوده وتنفيذ عمليات نوعية أصابت اثنتين من الدول الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن وهما روسيا بتفجير طائرة الركاب المدنية فوق مدينة العريش في مصر، وفرنسا بالعمليات المتزامنة التي ضربت العاصمة باريس.
تدور الإجابات عن هذا السؤال حول فرضيات الأزمة التي تعصف بالتنظيم على مستوى الموارد والإدارة؛ فمن المعروف أن التنظيم يعتمد على واردات النفط المهرب من المصافي التي يسيطر عليها في تمويل عملياته الحربية والتي تقدر سنويًا بحوالي المليار إلى المليارين دولار، هذا بالإضافة إلى أن التنظيم يعتبر من حيث الهيكلة شبه دولة، بمعنى أنه يسيطر على بقعة جغرافية محددة من الأرض، ويدير المجموعة البشرية التي تقطنها، وهذا يفرض عليه إدارة هذه البقعة من الأرض، والمجتمعات التي تسكن فيها عبر توفير المستلزمات الأساسية للحياة، وهو ما يستلزم بالضرورة الحفاظ على البنية التحتية لهذه المناطق، وبالنظر إلى طبيعة العمليات الجوية للتحالف الدولي فإن غالبية الضربات العسكرية للطائرات المقاتلة تتركز على البنى التحتية وطرق المواصلات (الإمداد)، وهو ما أضر بشكل كبير بالتعاملات التجارية والاقتصادية ضمن أراضي التنظيم؛ فتراجعت بذلك الواردات التي يحصلها من الضرائب، وعليه فإن التنظيم الذي يرى أن مشروعه بالداخل يتعرض للتراجع، حيث أشارت بعض التقارير أنه خسر ربع الأراضي التي كان يسيطر عليها، قد وجدَّ في تصدير عملياته العسكرية للخارج مخرجًا من هذا التأزم، يعيد له الزخم الذي كان قد حصل عليه إبان التوسعات الكبيرة التي حققها على الأرض في عام 2014، وهو باسترداده لهذا الزخم إنما يعمل على رص صفوفه، وجذب مجندين جدد من أرجاء العالم، وتحفيز الخلايا النائمة للتحرك.
أما فيما يخص طبيعة العمليات بحد ذاتها والتي اتصفت بالقدرة العالية على إحداث الصدمة والرعب لدى العامة والنخب السياسية على حد سواء، فقد كان هدف التنظيم منها هو الضغط على حكومات الضحايا لتغيير إستراتيجيتهم في القتال، وذلك بالانتقال من مجرد الاكتفاء بالضربات الجوية إلى إرسال جنود على الأرض، ولا شك أن إستراتيجية المواجهة وجهًا لوجه تنسجم والبنية الأيديولوجية لأعضاء التنظيم انطلاقًا من واجب تحضير البيئة للمواجهة المقدسة في هرمجدون، فهم يؤمنون بأنه لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق في أرض الشام!
قد يكون من المبكر الحكم على إمكانية تغيير الغرب لإستراتيجيته في التعاطي مع تنظيم الدولة، ولكن من خلال تصريحات المسؤولين الغربيين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي هولاند يبدو أن فرنسا ذاهبة نحو تصعيد عملياتها في كل من سوريا والعراق، وقد ظهر ذلك من خلال خطاب الحرب الذي ألقاه الرئيس هولاند في مجلس النواب الفرنسي بغرفتيه، وإرسال حاملة الطائرات “شارل ديغول” مباشرة بعد الأحداث إلى شرق المتوسط للمساهمة المباشرة في العمليات العسكرية، وهذه الإشارات التصعيدية هي التي دفعت المؤرخ البلجيكي دايفيد فان رابيروك في مقال نشره في صحيفة “لوموند الفرنسية” صباح الثلاثاء الماضي تحت عنوان “سيدي الرئيس… لقد وقعت فى الفخ” إلى القول إن الغرب باتجاه الوقوع في الفخ، والفخ هو استدراج الغرب إلى المزيد من القتال والحرب.
لا يمكن الاستهانة بالتحول في إستراتيجية التنظيم تجاه استهداف العدو البعيد ونقل معاركة إلى ساحة الخصم، فالتنظيم ورغم خسارته لكثير من موارده المالية التي ربما تؤثر سلبًا وبشكل مباشر على قدراته في السيطرة والإدارة، إلا أن الموارد المتوفره له – سواء على مستوى عدد المقاتلين ومستوى إعدادهم أم على مستوى الموارد المالية الكافية لإطلاق عمليات خارجية – مازال كبيرًا، وفي هذا السياق علينا ألا ننسى أن التنظيم استطاع إسقاط طائرة ركاب أودت بحياة أكثر من مائتين من المسافرين فقط عن طريق زرع قنبلة بدائية الصنع ربما لم تتجاوز تكلفتها بعض الدولارات، كما يبدو أن التنظيم سيعيد تفعيل إستراتيجية القاعدة في اعتماد مبدأ اللامركزية في إدارة خلاياه الخارجية بما يجعل “السرايا الجهادية” في مأمن من الاستهداف المبكر.
وبالنظر إلى إستراتيجية الغرب في التعاطي مع تنظيم الدولة نرى أنها تراوحت منذ البداية بين سياسة الاحتواء (Containment) وسياسة الخنق (Strangulation)، وذلك من خلال ضرب خطوط التنظيم الأمامية، ومراكز القايدة والتحكم، وحرمانه من القدرة على التهام المزيد من الأراضي، وإجباره على التخلي عن مناطق محددة خصوصًا لصالح القوات الكردية، ولعلَّ الرئيس الأمريكي كان دقيقًا جدًا عندما وصف جهوده ضد التنظيم بأنها تهدف إلى إضعاف التنظيم (discredit) وليس القضاء علي، ولا شك أن هذه الإستراتيجية قد أثمرت بعض النتائج المهمة وفق الخطط التي أعدت لها، ولكن ما لم يكن متوقعًا – أو ربما كان متوقعًا ولكن ليس على هذا القدر من التأثير – أن يوسع التنظيم من عملياته ليضرب خارج حدوده، إذن هل يتم الانتقال من مجرد سياسة احتواء التنظيم أو خنقه وإضعافه إلى سياسة تدميره (Destruction)؟
نظرًا لطبيعة الصراع المعقدة في كل من سوريا والعراق، فإن أي إستراتيجية فعالة لتدمير تنظيم الدولة لا بد أن تمر من بوابة التفاهمات الدولية بين كل من الولايات المتحدة وروسيا، ولكن مازال الطريق طويلًا لحدوث نوع من التوافق بين هاتين الدولتين اللتين تتنازعمها تصورات متضاربة حول طبيعة الصراع الجاري في المنطقة، فمثلاً بينما ترى الولايات المتحدة أن تنحي بشار الأسد يعدُّ شرطًا مهمًا لهزيمة “داعش”، ترى روسيا أن هزيمة “داعش” لن تتحقق بدون الأسد، وعليه فإن الحديث عن تدمير تنظيم الدولة يبقى سابقًا لأوانه ما لم تحل هذه المعضلة، وإدراكًا منهم لأهميتها ومحوريتها فإن كل من واشنطن وموسكو مع حلفائهم يسعيان لإيجاد مخرج لها يرضي جميع الأطراف، وفي هذا السياق تأتي تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جون كيربي في مؤتمر صحفي يوم الخميس 19 نوفمبر 2015 قال فيه “إن دور الأسد يبقى مسألة بحاجة لأن تحل، نحن نقر بذلك”، وأضاف أن دور الأسد في المرحلة الانتقالية سيتقرر خلال جلسات المحادثات المتعددة الأطراف التي سيتواصل عقدها والتي من المرجح أن تعقد بفيينا.
مازلت الظروف لخروج الأسد من السلطة وفق تفاهم دولي غير متوفرة حاليًا، في نهاية الطاف فإن معضلة الأسد لا تتعلق بشخص بل تتعلق إلى حد كبير بالقوة والنفوذ على الساحة الدولية بين روسيا والولايات المتحدة، خصوصًا وأن موسكو تحاول ليس التمدد عن طريق حلفائها التقليديين في المنطقة مثل إيران والنظام السوري بل بالتقارب من حلفاء واشنطن مثل مصر والأردن والعراق، وهو مما لا شك فيه يزعج البيت الأبيض.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فمازال الرئيس الأمريكي بارك أوباما يدافع عن إستراتيجيته القائمة على الاحتواء، فالرئيس المسكون باتباع سياسات تعاكس سياسات خلفه جورج بوش الابن، ويسعى للحفاظ على صورته بأنه رجل سلام (War ender) لن يغامر في آخر سنة من ولايته للانخراط الفعلي في معارك الشرق الأوسط، وإرسال جنود أمريكيين لمحاربة تنظيم الدولة؛ الأمر الذي سيحدُّ من فرص التوصل لإستراتيجية متكاملة للقضاء على التنظيم وتدميره، وهو ما يعني أننا مقبلون على مزيد من العمليات والتصعيد العسكري، ومزيد من الخوف.