إذا كانت السمة السائدة في وصف الأوضاع الراهنة في البلاد العربية هي الفوضى فإن مجموعة من القراءات الخاطئة أخذت تنتشر حول قراءة هذه الفوضى. ولعل أول تلك القراءات وأخطرها هو اعتبارها ترجمة لسياسة أمريكية عبّرت عنها كونداليزا رايس في أثناء حرب العدوان الصهيوني على لبنان في تموز/ يوليو 2006 بعبارة أو بنظرية “الفوضى الخلاّقة”.
ولأن هنالك استلاباً فكرياً للمصطلحات الآتية من الغرب عموماً أو من أمريكا خصوصاً انتشر وصف “الفوضى الخلاّقة” على ما يسود من فوضى راهنة راحت تفسّر بأنها من صنع أمريكا. ولكونها كذلك فإنها ستكون خلاّقة من جانب أمريكا ما دامت هي التي صنعتها وهي التي تتحكم فيها وتديرها.
وهذا الاستلاب سار جنباً إلى جنب مع انتشار مصطلح “الربيع العربي” على ما قام من ثورات شعبية. وكان قد أطلقه بغباء، أو دهاء، باراك أوباما تملقاً لثورات أطاحت بأهم حلفائه: حسني مبارك وزين العابدين بن علي. فوصف الثورات بالربيع وصف وهمي مؤدلج غير مطابق. ولا علاقة له بالفهم العلمي أو التاريخي لما يسمى بالثورات كما لا علاقة له بما يصطحب الثورات من اضطرابات ويتلوها من عواصف وارتدادات، وفي الغالب حروب أهلية أو إقليمية أو تدخلات دولية.
وكذلك فإن مصطلح “الفوضى الخلاّقة” وصف وهمي مؤدلج غير مطابق، ولا علاقة له بالفهم “الخلاّق” أو الواقعي أو العلمي لحالة الفوضى، وبلا أن تشذ أيّة فوضى عن ذلك الفهم.
الفوضى تتشكل بعد فقدان السيطرة على وضع ما، وبعد انهيار ما كان قائماً من نظام. وهي الفترة التي تكون فيها موازين القوى غير محسومة في مصلحة قوّة قادرة على الخروج منها إلى فرض نظامها.
والفوضى تتشكل عبر ميزان قوى مضطرب. وهي تخرج كمحصلة للصراعات، ولا تكون هناك قوّة مسيطرة على أطرافها المتصارعة. ولهذا فالفوضى حمّالة أوجه وخيارات متعدّدة، بما في ذلك مدى ديمومتها ومتى يتم الحسم في الخروج منها، وفي مصلحة مَنْ ستنتهي؟
من يسعى إلى الفوضى وتعميمها، كقاعدة عامة، ليست القوّة المسيطرة، وإنما القوّة المغلوب على أمرها، أو الطامعة في العمل ضمن الفوضى لتشق طريقها إلى السيطرة أو للإفلات من السيطرة القائمة أو أيّة سيطرة. ويحدث هذا بعد فقدان القوّة المسيطِرة لسيطرتها.
إذا صحّ هذا التعريق للفوضى وتحديد سماتها وأهم ملامحها. فكيف تكون الفوضى التي تسود في النظام العربي الآن، وهو المحسوب عموماً، في السابق، على أمريكا، هي سياسة أمريكية. وقد صنعتها أمريكا تحت نظرية “الفوضى الخلاّقة”. فالفوضى التي من صنع قوّة متفوّقة قادرة على التحكم فيها، لا تُسمّى فوضى إلاّ جوازاً، لأنها تكون مثل مصفف الشعر الذي “ينفله” و”ينفشه” لكي يعيد تصفيفه وترتيبه بصورة خلاّقة على أحسن ما كان عليه من قبل. وهذا لا يحدث إلاّ في صالون حلاقة. فهل هذا هو ما ينطبق على الأوضاع العربية الراهنة؟ أم تقول الوقائع والحقائق غير هذا؟!
لقد أفلتت الأوضاع العربية من حالة السيطرة السابقة، وضُرِب ما قام من نظام ساد عشرات السنين.
ولقد طال أمد هذه الفوضى، منذ 2011 إلى حد لم يعد أحد يستطيع أن يحدّد إلى متى، ولا إلى أي حد ستذهب بسفك الدماء، والدمار، والتهجير والخراب والكوارث وهي حالة تتسّم بتنازع قوى محلية وعربية وإقليمية وإلى حد أقل دولية (بسبب ضعفها). علماً أن أمريكا، في السابق، كان همّها أن تسيطر على الثروات وتستتبع الدول وتفرض استقراراً على مناطق نفوذها. لأن الاستقرار واللانظام والفوضى يناقض تاريخ دول الاستعمار وتاريخ الإمبريالية الأميركية. فقد كان النظام والاستقرار شرطين للهيمنة والسيطرة.
صحيح أن أمريكا كان من سياستها أن تًدبّ الفوضى في الاتحاد السوفياتي مثلاً أو في مناطق نفوذه. ولكن لا يمكن أن توصف حالات الفوضى تلك بالخلاّقة لأنها لم تكن تحت السيطرة. ولا يمكن الإفادة منها بمعنى جني الأرباح والسيطرة على الموارد والتحكم باقتصاديات الدول التابعة إلاّ إذا كانت الفوضى جسراً قصيراً قدر الإمكان للانتقال إلى حالة السيطرة والنظام والاستقرار. وكان الاتحاد السوفياتي يكبتها وينهيها إلى أن تهاوى لأسباب داخلية ومن صنع يديه.
ويصل الأمر في الذين يظنون أن الفوضى السائدة في بلادنا فوضى مسيطَراً عليها ليضربوا العراق مثلاً. فأمريكا ذهبت إلى العراق للسيطرة عليه واستتباعه ونهب ثرواته وليس لتحويله إلى فوضى بعد أن شنت عليه الحرب واحتلته لتخرج منه خالية الوفاض. فرياح العراق التي أطاحت باحتلالها ليست من صنع يديها.
فالفوضى هي نتاج تطوّر في توازن القوى، داخلي وإقليمي أساساً، لا يسمح لإحداها بالحسم والسيطرة وفرض نظامها. فمثال العراق يضرب عرض الحائط بنظرية الفوضى الخلاّقة الوهمية غير المطابقة لواقع الحال. أما ما ارتكبته أمريكا من أخطاء سياسية وتطبيقية في العراق فساعدت على فشلها واندلاع الفوضى وفقدانها السيطرة فلا علاقة له بكلمة خلاّق وإنما بنقيضها.
وبالمناسبة إن الحديث عن فوضى مسيطراً عليها، أو يمكن السيطرة عليها فإن ذلك يشترط إما السيطرة على كل أطراف الصراع لنصبح كأننا أمام مسرحية وزّع المخرج فيها أدوار الممثلين. وإما السيطرة على الأطراف الأقوى في الصراع بصورة قادرة على حسمه كما تريد القوى المسّيطِرة فمن هي تلك القوى الأقوى والأقدر على حسم الصراع؟ ومن ثم الخاضعة لأمريكا، في العراق، حتى يمكن التمادي في التنظير إلى حد القول بنظرية ما يسود فوضى خلاّقة.
ولهذا يمكن القول إن نظرية الفوضى الخلاقة من سلالة نظرية المؤامرة ولكن بصورة أكثر ابتذالاً. لأن نظرية المؤامرة تعتمد على دسائس وتخطيطات القوى الكبرى التي سيطرت على العالم في أزمنة الاستعمار والامبريالية، فيما نحن في زمن تراجعت فيه تلك القوى.