لم يكن يدور في حسابات البغدادي وهو يضع اللمسات الأخيرة على خطة “صعق أهل باريس”، أن نتائجها ستتعدى الحصيلة الثقيلة من الضحايا الذين سيسقطون إلى نتائج أخرى لا تقل فداحة، ستمس رصيد التنوير وإرث الثورة الفرنسية و”قيمها الإنسانية”.
وقف السيد أولاند رئيس فرنسا على منبر قصر فرساي أمام نواب الشعب وهو يبشر بعهد جديد، قد يكون جمهورية سادسة، فالرجل دعا إلى تعديل الدستور، وتمديد حالة الطوارئ مع تعديل نص القانون ليشمل التطورات التكنولوجية، وإلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز عمل أجهزة الاستخبارات في مكافحة الإرهاب، طرد الأجانب الذين يشكلون تهديدًا للأمن والاستقرار، وسحب الجنسيات من المتورطين في الإرهاب، حتى ولو كانوا فرنسيين بالولادة.
لا نريد أن نستبق الزمن ونتكهن بشكل الجمهورية السادسة بعد تعديل الدستور لكن من الممكن استشراف بعض ملامحها استنادًا لخطاب أولاند التاريخي في فرساي، فالطرد المنهجي والمقنن للأجانب “دسترة العنصرية”، وسحب الجنسيات، الذي يُعتبر إجراءً يدل على أن الإلهام أخد منحى معاكسًا من دول العام الثالث ومنظومات حكمها القروسطية إلى بلاد الأنوار؛ درة تاج النموذج الديمقراطي الليبرالي، تقنين الرقابة واقتحام الخصوصية، وترسيخ تغول الدولة ومؤسساتها القمعية على حساب الفرد وحقوقه الإنسانية دون وساطة قضائية، لأن الإجراء الأخير يعتبره أولاند معرقلًا لجهود الحفاظ على أمن البلاد واستقراره، فحث على ضرورة “مراجعة الدستور بما يسمح بتفعيل إجراءات مكافحة الإرهاب دون إعلان حالة الطوارئ”، أي يريد أن يقول “يد العدالة مغلولة بالقوانين”، كما أعلن منظر ديمقراطية العالم الثالث الملهم عبد الفتاح السيسي.
إذن، واستنادًا إلى هذه التوصيات التي ينتظر أن تُفعل خلال الفترة القادمة، يمكن أن نقول إن فرنسا على موعد مع عهد جديد، يتم فيه إعادة تدوير فكرة الديمقراطية، وتقليص دائرة المستفيدين من مكاسبها، بما يسمح بمراقبة وتفعيل إجراءات التوقيف والمحاسبة بحق أمة من الإرهابيين المفترضيين (المسلمين والمهاجرين)، هذه الشريحة التي يُنتظر أن تُرصد لها ترسانة من القوانين العنصرية، فهي التي لطالما اعتُبرت “عارًا” على مجتمع الحداثة الفرنسي، وقدحًا في الهوية العلمانية للدولة، وهو ما سيعتبر ترميمًا لثغرات المنظومة الديمقراطية التي حصنت الإرهابيين ومكنتهم من العيش والتحرك بحرية في فرنسا، وبالتالي ففرنسا منفتحة على جمهورية سادسة سمتها الأساسية هي القطع مع كثير مما يُصنف كإرث حداثي تنويري يمتد إلى لحظة الثورة الفرنسية.
نقول هذا تجاوزًا، وإلا فليس هناك ما يحملنا على تصديق ما تدعيه فرنسا لنفسها من “تنوير وعقلانية وحداثة”، وقد أبادت الملايين من شعوب شمال أفريقيا، إبادات لسوء حظها مازالت موثقة بآلاف من الشهادات والوثائق والصور، بعضها تظهر جثثًا متفحمة، وأخرى تظهر رؤوسًا معلقة على الأسيجة والجدران.
ما أحوج الرئيس أولاند إلى النصيحة التي أسداها لشعبه عندما ناشد “جميع المواطنين أن يتمسكوا بالقيم الفرنسية”، لأنه فيما يبدو هو أول من تنكر للقيم الفرنسية وهو يواجه ما اعتبره “جيشًا من الجهاديين الذين لا يمثلون أي حضارة”.
هل رصيد الثورة الفرنسية وإرث التنوير من الهشاشة والتهافت بحيث لم يكن يحتاج سوى لـ8 أفراد كي يجهزوا عليه في بضع دقائق؟ هل نجح البغدادي في نعي حضارة التنوير؟ إنه لشيء مثير جدًا أن تتصدع منظومة فكرية متجدرة ومستندة إلى قوة مادية جبارة خلال دقائق، فيُستدعى الجيش، وتُعلن الطوارئ ويتداعى الجميع إلى قصر فرساي لتُلعن الديمقراطية والدستور لعنًا كثيرًا.
من هنا يمكن أن نعاين ما تحملته الثورة السورية مند إعلان أبو بكر البغدادي لتنظيمه الضارب في أبريل من عام 2013، فإذا كان 8 أفراد في ساعات قليلة قد جعلوا أعلى باريس أسفلها، وتزعزع المجتمع الفرنسي بقيمه وأفراده ومؤسساته الأمنية والعسكرية، فكيف بآلاف من هؤلاء مدججين بأفتك الأسلحة، وآلاف غيرهم ممن ينتمون إلى ميلشيات وتنظيمات باطنية مجرمة، يُسلطون على ثورة يتيمة، تساندهم أنظمة متوحشة، بتواطؤ فج من النظام الدولي؛ أليس صمود ثورة تنوء بكل هذا العبء أمرًا يدعو للتقدير والتأمل.
إن الثورة السورية المجيدة وهي تتحمل عن العالم مهمة تخليص الإنسانية من أبشع صنوف البشر، وتحريره من الأيديولوجيات الهدامة، لم تجد من النظام الدولي والدول الكبرى سوى التواطؤ مع المجرمين وتقديم الغطاء السياسي والعسكري لهم ولتحركاتهم، موازاة مع حصار الفصائل الثورية ووضعها في لوائح الإرهاب، وبالتالي فالنظام الدولي لم يكن سوى جزء من المشكلة، وهو ما ينبغي للغرب أن يدركه جيدًا بعد وصول النار إلى أطراف ثوبه.
يجب أن يلاحظ الجميع صمود الثورة السورية العظيمة كل هذه المدة في وجه طوفان من المؤامرات وجيوش جرارة من المجرمين، استخدمت كل أنواع الأسلحة التي تتوخى إبادة الإنسان، كالأسلحة الكيميائية بأنواعها، والعنقودية والفسفورية، وترسانة ذكية فتاكة (الدرون)، وأخرى غبية لكن أشد فتكًا (البراميل)، يجب أن يلاحظ الجميع أن ثورة هذا حالها لتختلف عن كل الثورات التي عرفها تاريخ الصراع الإنساني، إنها ملحمة إيمانية وقدر رباني يسوق المجرمين إلى حتوفهم.
تفتخر الثورة الفرنسية أنها قامت على قيم إنسانية كونية نظّر لها فلاسفة كبار، تمكنوا من صياغة أفكار تنظم العلاقة بين فرقاء المجتمع والسلطة، كما كان اقتحام سجن الباستيل حدثًا رمزيًا يعبر عن لحظة سقوط قلاع الظلم وتحرر الإنسان من القيود، لكن ثورة الشام لم تقم على قيم إنسانية صرفة وإلا لما كانت لها القدرة على البقاء والمقاومة، بل قامت على قيم ربانية عبرت عنها صرخات العزل في الشوارع والحارات وهم يتلقون رصاص الشبيحة بصدورهم “يا الله ما لنا غيرك يا الله”، وعبرت عنها أيضًا رايات الثورة، وسمت الثوار، فاستطاعت “القومة” الإيمانية تحرير وهدم عشرات “الباستيلات”، وبقيت عشرات أخرى تتربص وتتحين الفرص لإسقاطها.
سيكون شيئًا مهمًا جدًا في سياق الحل الذي ينشده الغرب “للأزمة السورية” لو أدرك هذا الغرب نفسه أن هناك وعيًا ثوريًا إسلاميًا جهاديًا قد تشكل مع الثورة السورية وربما قبلها بسنوات، هذا الوعي يُموقع الغرب كرافد أساسي من روافد الأزمة التي حلت ولا تزال تحل بالأمة، فلم يعد هناك من يصدق الغرب عندما يتحدث عن “مساعي الحل” وعن “مبادرات”، “مبعوثين”، “مؤتمرات”، و”أصدقاء”، لأن كل ما يطرحه الغرب يطرحه في سياق تأبيد أزمات الأمة، وإرهاقها، وتجريدها من عوامل المقاومة والبقاء، من خلال تسويق شخصيات وهيئات تزعم تمثيل الأمة والتحدث باسمها، ليتم عبرها تمرير مشاريع الغرب وأجندته لتبقى الأمة مغيبة عن دورها ورسالتها، وتعود من جديد إلى المربع الأول، لقد مضى الزمن الذي لا يكلف فيها خداع الأمة سوى ضابط واحد وعقال على الرأس واسم مستعار (لورانس العرب) فيضحك على أمة بأكملها، ويزعم التحدت نيابة عنها في أهم قضية تخص الأمة وتوحيدها وسيادتها( الخلافة).
الذي لا ينبغي أن يُشك فيه أن الغرب لا يهمه أن داعش موجودة وأنها تنكل بأهل الشام والعراق، بقدر ما يهمه ألا تتجاوز داعش الخطوط المرسومة لها، فلتفجر ولتذبح ولتسيطر على ما شاءت من الأراضي، لكن في حدود ما رسمه الغرب للمنطقة من خرائط جديدة.
عبد الحميد أباعود هو الداعشي الذي اتهمته فرنسا بتدبير هجمات باريس، هذا الرجل لم يكن مجهولًا ولم تكن هجمات باريس هي أول ما استهل به سجله الدموي، بل نُشرت له مقاطع فيديو وهو يجر جثثًا بسيارته في سوريا، ويتوعد من أسماهم بالصحوات والمرتدين بالقتل والذبح، هذه المقاطع لم تحرك في وجدان الغرب شيء، لكن عندما “قرصهم” الرجل، رجعوا إلى أرشيفه الذي كان بحوزتهم، ولم يكن فيه قبل ذلك ما يدعو إلى الاهتمام، فالغرب إذن ليس جادًا في محاربة تنظيم الدولة بقدر ما هو جاد في احتوائه وتوجيهه.