ترجمة وتحرير نون بوست
كنت أتناول الأومليت مع رقائق البطاطا المقلية مع صديقي الصحفي في مطعم متواضع في إحدى ضواحي لندن الأسبوع الماضي عندما تحولت مناقشاتنا بشكل حتمي لتدور حول أحدث موجة من العنف في فرنسا، وكما كنت قد كتبت مؤخرًا في مدونتي ضمن الهافينغتون بوست، كررت حججي التي خلصت فيها إلى أننا في أوروبا رُمينا، بلا شك، وسط لجاج الأمواج العاتية، ولكننا لم نغرق بعد.
لم أكن مفعمًا بآمال أن يتفق صديقي مع آرائي، ولكنني صُعقت عندما تجلى غضبه وخوفه في جدال طويل وقاسٍ أوضح من خلاله بأن الطريقة الوحيدة للقضاء على هذا النوع من الإرهاب هي بقصف منطقة الشرق الأوسط بأكملها، حيث يتمركز عناصر الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لتخليص العالم من شرورهم وبلائهم.
كمحامٍ، وأيضًا كشخص يعرف الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط عن ظهر قلب، لا أواجه هذه الآراء عادة بالصمت، ولكن هذه المحادثة كانت إحدى تلك المناسبات التي لم أتوقع أن أتجابه فيها بالأفكار العنيفة، التي تنبع، من وجهة نظري، من مبدأ عدمي، تمامًا كعدمية أفكار الإرهابيين أنفسهم.
العالم بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر
بالمجمل، وبالنظر إلى أن التطرف حاضر في كل مكان، هل من الحكمة أن نقصف وندمر ونمسح السكان في كل منبع للإرهاب من كل مكان؟ وبالمقابل، لا يبدو من غير المتصور بأن بعض الأوروبيين يتبنون هذه الفكرة اليوم، حيث يعتقدون بأن الحل الوحيد يتمثل بسفك الدم والقضاء على الجميع بغية التمتع ببعض السلام والهدوء؟
في هذا المقام، يبدو من البديهي أن نؤكد بأن العالم قد تغيّر بعد الحادي عشر من سبتمبر، الحادثة التي أوقظتنا بوحشية من عصر تفكيرنا البرئ، ولكن دعونا نتذكر بأن أحداث سبتمبر هي أيضًا من مهد الطريق لصدور قانون باتريوت، الذي أسفر عن الحرب الكارثية في العراق، التي نحصد اليوم ثمارها الفاسدة.
ولكن رغم المعاناة المروعة التي عشناها في تلك الأوقات، ورغم موجات الإرهاب المتعاقبة التي شهدناها في العديد من القارات، أعتقد بأن هذه أول مرة تتحول فيه أوروبا إلى مواقف أكثر حزمًا وأكثر خوفًا على قدم المساواة.
التحول إلى الموقف الحازم يبدو أمرًا جيدًا في هذه الأيام، فالوقت قد حان لتتضافر جهودنا بغية محاربة كافة أشكال الإرهاب، الوليدة أو المؤسساتية، بشراسة واقتدار، ولكن التحول إلى الخوف يبدو أمرًا خطيرًا، لأنه يجعلنا نُهدر ما يحدد خياراتنا كمجتمع أوروبي، ويحولنا إلى كائنات بشرية بدائية مدفوعة بغرائزها الذكورية.
الاستجابات الكبيرة المتعاقبة
بجميع الأحوال، لا يمكننا أن ننكر الاستجابات الكبيرة المتعاقبة التي شهدتها أوروبا، كإغلاق وتأمين محطات القطار في بعض أجزاء أوروبا، أو لجوء فرنسا إلى المادة 42 – 7 من معاهدة لشبونة للدعوة الى رد دفاعي وأمني مشترك من الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا المجال أيضًا لا يمكننا أن نغفل حقيقة أن مجلس الأمن الدولي اتخذ قرارًا بالإجماع يقضي بعدم إدخار جهد لمكافحة تنظيم داعش، وإن كان ذلك دون اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يحصّن القرار بالقوة العسكرية اللازمة لتنفيذه.
ومن وضعنا القائم اليوم، اسمحوا لي أن أطلع القراء على وجهة نظري حول أحدث المحن التي تواجه أوروبا:
– أول شرط لازم ولا غنى عنه للوصول إلى استجابة فاعلة للأزمة التي تمر بها أوروبا، هو قبول واقع أننا نواجه اليوم تهديدًا عالميًا خطيرًا، من داعش في الرقة لبوكو حرام في يولا للمرابطين في باماكو، دون أن نفقد اتزاننا ورزانتنا لمواجهة هذه التهديدات؛ فخلق حالة من الذعر هو تصرف يماثل في سوء نتائجه سياسة التستر على الحقائق، لأن الجمهور بحاجة لمعالجة الحقائق برباطة جأش، والتهديدات التي تُلوّح بسحب جوازات السفر من بعض المواطنين الفرنسيين، على سبيل المثال، تجعل المجتمع أكثر هشاشة، وتبدو وكأنها ردة فعل انهزامية إزاء الاستفزازات التي تخلقها الجماعات الإرهابية، والتي تهدف من خلفها إلى إضعاف تماسكنا كمواطنين أوروبيين.
– إصلاح قواعد الشنغن ضرورة واجبة، ولكن هذا الإصلاح يجب أن يتم بشكل واضح، ودون أن تتحول قواعد الشنغن إلى أداة عقابية بيد المشرعين الأوروبين؛ فحرية التنقل هي إحدى أكثر الحريات أهمية التي أحدثتها أوروبا وطبقتها على مر السنين، والإصلاح الواجب يجب أن يُعنى بتعزيز مراقبة الحدود، لا بإغلاقها بشكل قاطع أمام المواطنين.
– تفجير “معاقل الإرهابيين” في سورية والعراق لن يساعد على حل المشكلة، بل بدلًا من ذلك، سيعمل على الإمعان في استقطاب العالمين العربي والإسلامي وإبعادهم عن مثلنا الأوروبية، وعلاوة على ذلك، يمكن لهذه السياسات أن تدفع بعض الأشخاص في الاتجاه الخاطئ، أي نحو التطرف، ومن هذا المنطلق فإن الاستجابة المناسبة لا تتمثل بممارسة المزيد من العنف العسكري، ولا بالشكوى من أننا لا نحوز معلومات استخباراتية كافية، بل إن الاستجابة المثالية تنبع من إيماننا بامتلاكنا لموارد بشرية ومالية كافية، لنعمل بمهارة على تحليل التقارير التي تجمعها وتقدمها خدماتنا الاستخبارتية بوفرة كل يوم، للمساعدة في منع المتطرفين من دخول حدودنا، ونبذ الخلايا النائمة داخل حدود أوروبا نفسها.
– من المنطقي أن يتسلل بعض المشتبه بهم إلى أوروبا كلاجئين من منطقة الشرق الأوسط، فبعد كل شيء، أوروبا تتوقع وصول عدد اللاجئين ضمنها إلى حوالي 1.2 مليون لاجئ بحلول نهاية عام 2015، ومن السخف أن ننكر بأننا لن نكون عرضة في نهاية المطاف لخطر تسلسل بعض الإرهابيين أو المدسوسين الحكوميين الذين قد يحاولون أن يعيثوا فسادًا في بلداننا، ومن هذا المنطلق، لا ينبغي علينا نسمح لحفنة من غير الأسوياء بأن يقوضوا مبدأ الضيافة الأوروبية الذي يعتبر أحد أهم المبادئ المستمرة التي نعتنقها، وبالتالي، فإن الترديد الببغاوي لبعض شعارات كراهية الأجانب التي يطلقها بعض السياسيين في الولايات المتحدة، حول وجوب ترحيبنا فقط باللاجئين المسيحيين وإدانة البقية، هو انحراف قبيح عن قيمنا وإيماننا، وعن إنسانيتنا أيضًا.
– يجب علينا الكف عن تملق ومداهنة الديكتاتوريين والمجمعات الدينية المصنَّعة إذا أردنا هزيمة الإرهاب؛ فنحن في أوروبا عالقون بلا أمل ضمن دوامة استقطابي الديمقراطية أو الاستقرار، وإذا بحثنا حولنا، سنكون عرضة لاستنتاج أن الديمقراطية قد فشلت، لذا فإن الوصول إلى الاستقرار، ربما على غرار قراءة قبضة بشار الأسد الأمنية، هو البديل الوحيد القابل للتطبيق، ولكن التاريخ قد أظهر لنا مرارًا وتكرارًا بأن هذه الحجة قاصرة، لأن أيدي الطغاة الذين نطعمهم اليوم، ستصفعنا مرة أخرى بعد تغيّر الظروف وعودة مقاليد القوة إليهم من جديد، وهو السيناريو الذي يتكرر مرارًا.
– دعونا نستوعب بشكل حاسم بأنه يتعين علينا أن نتحدى الشرعية التي يتمتع بها تنظيم داعش في بعض الأوساط ضمن العالم الإسلامي؛ لذا نحن بحاجة لتفحص الإستراتيجيات التي نعمل من خلالها داخل أوروبا وخارجها، ونعترف بأن الانسلاخ والاغتراب الفكري التام، وما يصحابه من استقطاب نحو التطرف، لجماعات واسعة من الرجال والنساء في الشرق الأوسط، ناجم عن التعصب الديني أو التلقين عن بعد، بقدر ما هو ناجم عن الفقر والحرمان والقهر والظلم الذي مورس ويمارس يوميًا على هؤلاء من قِبل حكامهم أو من قبلنا أحيانًا؛ فمن الممكن قمع وتكميم أفواه بعض الناس لبعض الوقت، ولكن من المستحيل قمع وتكميم أفواه جميع الشعوب في جميع الأوقات.
إذن، هل يشهد الاتحاد الأوروبي اليوم بداية الانهيار؟ يمكنني أن أقول بأن الحكم بهذا الموضوع لم يصدر بعد، ولكن أحد الأجوبة يكمن بالتأكيد في الطريقة التي نفسر بها التحديات المؤلمة التي تواجهنا اليوم، والطريقة التي ندير بها هذه التحديات، ومن يدري، ربما أستطيع حتى أن أقنع صديقي الصحفي بأننا لسنا بحاجة للتفكير باتخاذ التدابير الصارمة التي تدنس قيمنا في خضم مكافحتنا لتأمين مستقبلنا، على الأقل ضمن الوقت الحالي.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية