يرحم الله أمير المؤمنين، الخليفة الراشد، عثمان بن عفان، الذي أعتقد بأنه -وبشكل أو بآخر – كان ضحية للتطرف، التطرف أو الغلو، وباعتقادي أنهما مفردتان لمعنى واحد ودلالة واحدة.
بطبيعة الحال، حديثي ليس عن ابن عفان، وإنما عن عثمان آخر، ذلك العثمان الذي فطر قلبي، وأدمع مقلتي، وصدع رأسي، وحرمني من النوم لأيام طوال، ذلك العثمان الذي لم يغب عن بالي حتى بعد كل تلك السنوات التي خلت.
كنت أراه دائمًا يتقافز في المسجد القريب من محل إقامتي، حتى إذا حضرت الصلاة اصطف كأروع ما يكون الاصطفاف، وخشع كأحسن ما يكون الخشوع، والعجيب أنه كان يأبى إلاّ الصف الأول، ويحرص على أن يكون خلف الإمام مباشرة.
صديقي عثمان لم يكن حريصًا على الصلاة فحسب، فقد كان يحفظ من القرآن، ويرتدي الزي (الشرعي)، وبمعنى آخر، كان يقصر ثوبه ولا يسبله، ويعتمر قبعة بيضاء، فعثمان هذا (مسلم صح)، والد عثمان كذلك كان (مسلم صح)، وكان عثمان يشبهه في كل شيء، إلا لحيته الغزيرة الكثيفة الطويلة، فالشعر لم يكن قد نبت على وجه عثمان بعد.
لم أكن الشخص الوحيد الذي يلحظ عثمان، ويراقب حركاته وتصرفاته، صديقي أحمد والذي كان يقيم معي في الغرفة ذاتها، كان هو الآخر معجب بعثمان وكان يرى فيه طفلًا خلوقًا ملتزمًا (أقصد متدينًا)، وكان يراه كذلك (مسلم صح).
اليوم (هذا اليوم قبل 10 سنوات أو يزيد)، يوم أجازة عن الجامعة بالنسبة لي ولزميلي أحمد، صلينا الظهر ولم نتعجل الخروج من المسجد البتة، بل أسندنا ظهرينا إلى جدار المسجد الخلفي وجلسنا نراقب عثمان، وهذه المرة عن كثب، حتى إذا ما اقترب منا – وكنت لا أزال لا أعرف اسمه – همست إليه أن اقترب، لا أدري لماذا تلفت عثمان لأكثر من مرة قبل الاقتراب منّا، عله كان يتأكد من أن والده قد غادر المسجد، فلا أعتقد أن مسلم صح كوالد عثمان قد يسمح له بمحادثة الكبار.
جلس عثمان إلينا فبادرته بالسؤال عن اسمه، فأجاب بلكنة تخبر عن بلده الذي قدم منه، على الفور استنتجت وزميلي أن عثمان قد يكون من المغرب أو جارتها الجزائز، ولمزيد من التأكد أتبعت سؤالي بآخر، من المغرب يا عثمان؟ لا من الجزائر.
تنبه زميلي إلى أن اليوم وعلى الرغم من أجازتنا إلا أنه يوم دوام للمدارس، فسأله عن عمره، فأجاب (5 سنة)، مع إشارة من يده لتأكيد المعنى، ماذا عن المدرسة يا عثمان؟ كنت أذهب إليها، نعم! كنت؟! ولماذا لم تعد تفعل؟ بلكنته اللطيفة الرائعة: كنت أحفظ ثلاثة أجزاء قرآن ونسيتها بالمدرسة، فمنعني أبي من الذهاب.
يا الله، كم أنت مسلم صح يا أبا عثمان! حرمت طفلك من الدارسة والتعلم، حرمته من أن يعيش حياته كطفل من حقه أن يلهو ويلعب، لأنه نسي ثلاثة أجزاء من القرآن، وأي شيء أعظم من القرآن، و”رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه” يا أبا عثمان.
المهم أنك حافظت على دين عثمان، ولعلي نسيت وما أنساني إلا الشيطان أن أذكر، أن والد عثمان كان وبكل برود يزيحه من الصف الأول ليصطف مكانه، فغالبًا ما كان عثمان يسبق والده إلى المسجد، ولعلي نسيت وما أنساني إلا الشيطان أيضًا، أن أذكر أن والد عثمان، انتفض ذات يوم وغادر المسجد مهرولًا، بعد أن ذكر الرجل الذي كان يقدم موعظة عقب الصلاة، مقتبسة من كتاب “في ظلال القرآن لسيد قطب”؛ فوالد عثمان مسلم صح ولا يستمع لكلام رجل يخالفه المنهج، ويراه كافر في قعر جهنم، وإن صلى وصام وقام، وألف تفسيرًا للقرآن العظيم من آلاف الصفحات، أو مات على أعواد المشانق ظلمًا.. ما علينا، فالرجل (مسلم صح) ولا يساوم على المبدأ.
مر على تلك الحادثة أكثر من عشر سنوات، وللأمانة أنني هممت أن أكتب عن عثمان مرات ومرات، وفي كل مرة كنت أقدم ثم أحجم، ولكنني اليوم، وبعد أن بلغ عثمان الخامسة عشرة من عمره أو يزيد، أسأل ولا وأعلم للسؤال جوابًا، ترى ماذا حل بعثمان؟ هل تراه عاد إلى مدرسته؟ لعله اليوم أو العام المقبل يتحضر لامتحانات للثانوية العامة؟ ولعله بعد عام أو اثنين يكون في إحدى القاعات بإحدى الجامعات.
لكن ماذا إن كان والد عثمان قد أصر على أن يبقيه (مسلم صح)؟ ترى هل ظل عثماننا ذلك العثمان اللطيف الظريف الذي عرفناه قبل كل تلك الأعوام؟ أم أنك بت حقودًا غلولًا يا عثمان؟ هل تكره زملاءك وأقرانك الذي تقدموا في دراستهم ومضوا فيها قدمًا؟ وما العمل الذي تقتات منه يا صديقي؟
ليتني أراك يا عثمان، فتحدثني بكل شيء، كل شيء إلا أنك قررت أن تكون (مسلم صح) وأنك انضممت إلى (المسلمين الصح)، داعش ومن شاكلهم.
لا تسألوني عن التطرف وكيف يصنع يا سادة، اسألوا عثمان ووالد عثمان، وكم من عثمان أضعنا.