نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، موضوعًا بعنوان “السيسي ليس بينوشيه”، حيث عقد التقرير مقارنة بين السيسي الذي قام بانقلاب عسكري، وبنوشيه الرئيس التشيلي، الذي قاد أيضًا انقلابًا ضد رئيسه ولكنه أحدث طفرة اقتصادية في تاريخ تشيلي.
ولكن أوضح التقرير أن المقارنة خاطئة شكلًا وموضوعًا، وأنها بالطبع ستأتي في صالح بينوشيه، وذلك لعده أسباب أوجزها التقرير في 4 نقاط؛ جاء في مقدمتها، أن السيسي الأكثر وحشية، فبينوشيه، حكم البلاد خلال 17 عامًا، قتل فيهم 3000 شخص واعتقل 40 ألف آخرين، أما السيسي فقد وصل إلى هذا الرقم في أقل من سنة، حيث قتل ٥٠٠٠ شخص على أقل تقدير في يوم واحد في ساعتين، خلال فض اعتصام رابعة، كما أن حجم القمع تضاءل في عهد بينوشيه مع مرور مدة في حكمه، ولكن في مصر يحدث العكس تمامًا.
وفيما يخص الجانب الاقتصادي، أضاف التقرير أن السيسي لم يقدم أي نمو اقتصادي بمصر بل بالعكس، رفع الدعم عن الوقود، وهو يتبع سياسة الرأسمالية الفاسدة التي ورثها من النظام السابق في عهد المخلوع مبارك.
كما ذكر التقرير على جانب فساد المؤسسة العسكرية في مصر، أن الجيش في تشيلي كان يحظى بسمعة جيدة، وهو مغاير تمامًا لما يحدث الآن على أرض الواقع في مصر، فالجيش هو من يتولى مقاليد الحكم في البلاد منذ عهد جمال عبد الناصر عام 1952، ومنذ ذلك التاريخ والجيش يملك أكثر من نصف أراضي الدولة، ولديه مطامح اقتصادية ضخمة، تمنى كاتب التقرير في النهاية، إليوت إبرامز، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، ألا يكون السيسي رئيس مصر حتى عام 2037.
تشير أحكام الإعدام التي صدرت منذ تولي السيسي السلطة الفعلية بعد انتخابات صورية، ورد الفعل الصامت من الحكومات الغربية، إلى أن السيسي قد جذر منظومة طويلة الأجل من توطيد السلطة.
إن الحكم القضائي بالإعدام ضد مئات، من بينهم أكاديميين، بل وعلى الرئيس المصري المدني الوحيد محمد مرسي، هو دليل متزايد على أن السيسي قد مهد صيغة عملية للحكم في مصر؛ هذه الصيغة قد يكون مصيرها الفشل على المدى الطويل، ولكن المدى الطويل يمكن أن يكون بعيدًا بعض الشيء.
تتركز أجندة الحكم اليوم في مصر حول ثلاثة أمور: الحرب على “الإرهاب”، المعارضة، والحفاظ على تدفق مستمر من الدعم النقدي والمادي من دول الخليج، وإصلاحات اقتصادية متواضعة تعطي على الأقل انطباعًا بوجود تقدم إيجابي.
“الحرب على الإرهاب”، ازدادت الهجمات المسلحة منذ الإطاحة بمرسي في يوليو 2013؛ استهدفت في معظمها قوات الأمن والمنشآت الحكومية، وبعض الشخصيات، قد لا تكون الحرب على الإرهاب كافية كأيديولوجية موحدة للدولة المصرية، لكنها قطعت شوطًا طويلًا في تعبئة ما قد يكون دونها دعمًا فاترًا للسيسي والجيش، في الحرب على الإرهاب، جمعت الدولة الإخوان المسلمين مع جهاديي أنصار بيت المقدس (ولاية سيناء)، مع باقي التنظيمات الصغيرة، التي نشأت بعد الإطاحة بحكم الإخوان مثل أجناد مصر وغيرها، في سلة واحدة، لتساوي بين المعارضة العامة التي تأتي من الإسلام السياسي وبين التفجيرات والاغتيالات.
قال السيسي لصحيفة واشنطن بوست في مارس، “إن الإخوان المسلمين هي المنظمة الأم لأيديولوجية متطرفة”، وأضاف “إنها تشكل الأب الروحي لجميع المنظمات الإرهابية، وينشرونها في جميع أنحاء العالم”.
ربما يكون دافع السيسي هو الظن بأن التيار الإسلامي كله مسؤول بشكل ضمني عن أعمال العنف، أو ربما أنه حسب بشكل خاطئ أن موجة العنف تتيح الفرصة للقضاء على التيارات الإسلامية، سواء المعتدلة منها أو العنيفة، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، هناك بالفعل تصاعد في عنف النظام ليس فقط تجاه معارضيه، بل تجاه كل من لا يؤيد النظام أيضًا، ولكن في اعتقادي أن سياسات النظام متسقة مع أهدافه، والمشكلة الأكبر هي في انقسام القوى التي تعارضه وعدم تمكنها حتى الآن – رغم حجم التضحيات وانكشاف نوايا النظام – من الاتفاق على هدف وطني جامع كما حدث عام 2010.
وقد أعطت المعركة ضد الإسلاميين السيسي بعض الشرعية، ولكنها ليست ما أوصلته إلى السلطة، بل ليصل إليها اعتمد على أموال الخليج، وهو كان شرط مسبق للإطاحة بمرسي، كما سمعنا بشكل شديد التفصيل في التسجيلات المسربة من مكتب مدير مكتب السيسي عندما كان وزير دفاع، أوضح الرئيس أنه يتوقع أن تتدفق المليارات بلا هوادة من السعودية وغيرها من دول الخليج، “يا عم الفلوس عندهم زي الرز يا عم”.
قد يبدو هذا مثل ابتزاز قطّاع الطرق، لكنه أيضًا براعة سياسية، يعترف السيسي بأن الخليج يستطيع أن يتحمل تكاليف مصر، وأنه على استعداد لدفع 10 مليار دولار أو أكثر في السنة إلى أجل غير مسمى لحليف يمكن الاعتماد عليه في القاهرة.
يبذل النظام جهوده لاستيراد ما يكفي من الوقود والمواد الغذائية للحفاظ على الدولة فعالة، وعلى عدم الدفع بالفقراء نحو ثورة جياع، وبدون مال الخليج، فإن انقطاع التيار الكهربائي من المحتمل أن يتحول إلى انقطاع للتيار الكهربائي على المدى الطويل.
هذا التدفق الذي كان ينتظره السيسي تقريبًا انتهى الآن؛ نظرًا للأزمة الاقتصادية المرتقبة في بلاد الخليج نتيجة للحرب في اليمن وللدعم الخليجي لبعض فصائل المعارضة السورية، والتي تتحمل بعض دول الخليج بعضًا من الفاتورة المدفوعة، خاصة وأن تصريحات هشام رامز، محافظ البنك المركزي المُقال حقيقة والمستقيل ظاهرًا، أظهرت أن البنك المركزي لم تصله أموال خليجية منذ تولي السيسي الحكم، وهذا ما كشفت عنه دراسة لمعهد كارنيجي الأمريكي، أن المؤسسة العسكرية المصرية تمكنت من إعادة بناء إمبراطوريتها الاقتصادية، بمعنى أن الأموال الخليجية المتدفقة إلى مصر دخلت في حساب المؤسسة العسكرية، وعلى أي حال فإن ما تبقى من مساعدات الخليج هو النفط المتدفق إلى الأسواق المصرية للحفاظ على عدم حدوث اختناقات سواء في المواد البترولية، أو الكهرباء.
آخر ركن من تلك الصيغة، الإصلاح الاقتصادي، هو الأصعب فإن الإصلاحات الكبيرة لن تكون متاحة، ولكن إدخال تحسينات تدريجية على نظام الدعم يمكن أن يخدم السيسي على نحو كاف على المدى المتوسط، وفي الوقت نفسه، فإن الخدع الخيالية مثل العاصمة الإدارية المُخطط لها خارج القاهرة بتكلفة 45 مليار دولار، وهي مشروع دون جدوى تقوم به شركة بناء إماراتية، والذي ربما لن يجرى بناؤه أبدًا، والمشاريع الصخمة المقترحة للمساكن والري ومشاريع الطرق، كلها تعطي انطباعًا بأن الدولة على طريق التقدم، والعكس هو الصحيح فلم ينفذ من هذه المشروعات غير تفريعة قناة السويس والتي أضرت بالاقتصاد المصري؛ فمن أجل إنجازها في سنة خرجت 9 مليار دولار من العملة المتدوالة في السوق إلى الشركات الأجنبية العاملة في المشروع، والمثير للشفقة هو انخفاض إيرادات القناة رغم الهدية الوهمية للعالم.
والمعروف أنه لن يتحقق سوى جزء صغير من هذه المشاريع، ولكنه يرسخ أن هناك تحرك في الدولة خاصة داخل بعض الأوساط الذي يتلقى منها دعمًا كبيرًا، وهم أصحاب الأعمال الأثرياء والطبقة المتوسطة – صغيرة الحجم ولكن المؤثرة سياسيًا – المقربين إلى السيسي، ويمكن أن يستفيدا من تطوير البنية التحتية.
سيلعب الجيش أيضًا دورًا رئيسيًا في أي من مشاريع البناء كبيرة الحجم، وقناة السويس خير شاهد على ذلك، وشبكة الطرق التي يقوم بها في كل ربوع المملكة العسكرية دليل قوي على انحسار النشاط المدني وتقدم العجلة العسكرية في المشروعات لتلقي بظلال كئيبة على مستقبل المشروعات القادمة، فإذا كان جل مشروعات الدولة في أيدي الجنرالات، فماذا تفعل شركات المقاولات المدنية، خاصة وأن العمل من الباطن الذي يعطية الجيش لبعض الشركات الخاصة هي شركات مملوكه لجنرالات خارج الخدمة.
إلا أن الاستقرار القصير الأجل لنظام السيسي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من المتاعب لمصر في المستقبل، فسياساته القمعية لن تحل المشاكل الكثيرة في البلاد، بل وبالتأكيد ستدفع مصر إلى وضع أسوأ حتى أكثر من ما قبل يناير 2011، إن أسلوب السيسي المليء بجنون العظمة يبدو أنه نتاج رؤية متماسكة بين الأجهزة الأمنية الغاضبة في مصر، والتي تظهر وحدة الهدف في تنفيذ حملة ضد كل المعارضة السياسية، يجتمع الجيش، الشرطة، المخابرات، والمحاكم معًا لتنفيذ رؤية الحكومة السياسية، وهو إنجاز بيروقراطي مثير للإعجاب، ولكنه يحمل مستقبل سيء للحرية السياسية.
و من المعروف أن الجيش، الذي مهد طريق السيسي إلى السلطة، في حالة انهيار اقتصادي أو انتفاضة شعبية لتردي الأوضاع، لا يوجد أدلة تشير إلى أنه يمكن أن يضحي قادة جيش مصر بامتيازاتهم المؤسسية الخاصة لحماية السيسي.
يواجه السيسي أيضًا تهديدات أخرى على المدى الطويل، مثل الدعم المكلف للغاية حتى إنه لا يمكن الحفاظ عليه، والمهم جدًا فلا يمكن إلغاؤه دون تفكك اجتماعي هائل، فضلًا عن البطالة المتزايدة، وعدم كفاية المياه لأغراض الزراعة في ظل بناء السدود (النهضة وغيرها) وعدم حل الأزمة المزعجة جدًا لمصر منذ أيام مرسي.
من الواضح أن النظام غير قادر على حل تلك التحديات، ولكن يشير التاريخ إلى أن سوء الإدارة يمكن أن يستمر لفترة طويلة، في الواقع، بالتأكيد هناك شقوق داخل النظام، لكنه لا يسعى إلى حل المشكلة بإيجاد نخبة حاكمة متجانسة، ولكنه يسعى فقط كسلطة كافية للبقاء في موقع المسؤولية، والحصول على دعم دولي كاف لتجاهل غضب المصريين، الذين يريدون حقوق مدنية، حرية سياسية، وتنمية اقتصادية حقيقية.