كان من المقرر أن يتوجه الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي مساء الثلاثاء بكلمة إلى التونسيين حول مواضيع الساعة، فالإضرابات المتتالية التي أقرتها النقابات العمالية في القطاع الخاص، وصراع أجنحة الحزب الحاكم الذي أسسه الباجي نفسه، وتكرر استهداف الإرهابيين لرعاة غنم ومدنيين في المناطق الجبلية النائية؛ أمور أصبحت تشغل التونسيين وتؤرقهم كثيرًا في الأونة الأخيرة، على ضوء هذه الملفات وعلى ضوء أخرى غيرها، ضبط قائد السبسي ساعة خطابة المتلفز الذي كان من المقرر أن يُبث في الثامنة و45 دقيقة بتوقيت تونس، في الأثناء يبدو أن هناك من عدّل أوقاته على عكس ساعة الرئيس التونسي وقرر أن يبث خطاب الدم بدل خطاب الرئيس.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف مساءً عندما اقتحم انتحاري حافلة متوقفة مخصصة لتجميع أفرادًا من الأمن الرئاسي، الجهاز المكلف بحماية رئيس الدولة والشخصيات الرسمية في تونس، فجر الانتحاري نفسه داخل الحافلة موقعا 12 قتيلًا و17 جريحًا في صفوف الأمنيين، في عملية تعتبر أول استهداف لجهاز الأمن الرئاسي في تاريخ تونس، كما أنها أول عملية انتحارية بحزام ناسف في تاريخ البلاد، ورغم أن محاولة اعتداء مشابهة استهدفت سياحًا في مدينة المنستير الساحلية خريف 2013 إلا أنها باءت بالفشل لأن الانتحاري لم يحسن آنذاك التعامل مع الحزام الناسف الذي كان تقليدي الصنع.
بالنظر لكل هذه المعطيات يمكن الجزم أننا إزاء تحول نوعي في شكل العمليات الإرهابية التي استهدفت تونس منذ مايو 2011، تاريخ أول عملية استهدفت عناصر من الجيش التونسي والتي كان سلاح مرتكبيها آنذاك رشاشًا عاديًا، هذا التحول يمكن تلخيصه في مستويات ثلاثة؛ المستوى الأول تقني لوجستي، حيث نتبين بوضوح أن لدى المجموعات الإرهابية الآن القدرة التقنية التي تمكنها من صنع حزام ناسف، أو الحصول عليه، ذو قدرة تدميرية عالية يمكن أن يرتديه انتحاري دون أن يثير انتباه المارة أو اشتباه الأمنيين.
المستوى الثاني معلوماتي أمني، وهو في تقديري الأخطر والأكثر أهمية في هذه العملية، ويتلخص في كيفية حصول الإرهابيين على موعد ومكان التحاق أفراد الأمن الرئاسي بحافلتهم، وفي قدرة الانتحاري الذي فجر نفسه أن يميز الحافلة المستهدفة عن بقية الحافلات الكثيرة التي تقف في نفس ذلك المكان، ولماذا لم يقم جهاز الأمن الرئاسي بتغيير مكان توقف الحافلة التي تنتظر أعوانه باستمرار، لما في ذلك من تشتيت للأنظار عن تفصيل يبدو في ظاهره روتينيًا إداريًا وفي باطنه أمنيًا خطيرًا.
المستوى الثالث لتفجير شارع محمد الخامس أمني سياسي، إذ يضرب الإرهابيون من جديد في قلب العاصمة، على بعد أمتار قليلة من مقر رمز السيادة الأمنية التونسية ممثلة في وزارة الداخلية، في مكان من المفترض أنه مراقب بشدة وباستمرار، ويضربون بعد أيام قليلة من إقرار وزارة الداخلية رفع حالة التأهب إلى درجة “حزم 2″، ويضربون الأمن المكلف بحماية رئيس الدولة ساعات قبل أن يلقي كلمته المنتظرة.
الرسائل الرمزية والسياسية التي يحملها المستوى الثالث في التحول الذي طرأ على شكل الخطر الإرهابي تتقاطع مع ما نشره موقع “الجمهور” منذ أيام، وهو موقع إمارتي معارض تحدث عن معطيات وصفها بالأكيدة حول مخطط لاستهداف الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي نفسه، وهو ما سبق لابنه حافظ قائد السبسي تأكيده في مناسبة سابقة.
الموقع الإماراتي تحدث عن إمكانية ارتكاب عمليات إرهابية داخل تونس لإرباك مسارها السياسي وما يزيد الشكوك حول كل هذه المعطيات مجتمعة لهذا العمل الإرهابي أن السلطات الأمنية التونسية اتصلت قبل حادث التفجير بيوم واحد بالرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي لتحذيره من مخطط إرهابي مؤكد يستهدفه بالاغتيال.
ردة فعل الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي بعد تفجير حافلة أمنه الرئاسي كانت كلمة مقتضبة لم تأتِ بجديد يُذكر، عدا إعلان حالة الطوارئ لمدة شهر وفرض حظر التجوال بالعاصمة طوال الليل، وهي إجراءات بدت انفعالية نوعًا ما بالنظر إلى طبيعة الهجوم، كما أنها لن تغير شيئًا في قدرة الأجهزة الأمنية على التعاطي مع الخطر الإرهابي، خاصة وأنها في حالة تأهب منذ أسابيع منذ حدوث هجوم باريس.
تعاطي وسائل الإعلام التونسية، وخاصة المرئية منها، مع هذا التفجير أعاد تقريبًا اجترار نفس الخطاب الذي يربط بين الإرهاب ورجوع تيار الإسلام السياسي إلى النشاط (حركة النهضة في تونس)، أسوة بغيره من الأحزاب، كما أن بعض المحللين بالإضافة إلى منتسبي النقابات الأمنية لم يفوتوا الفرصة دون إظهار سخطهم على المنظمات الحقوقية، التي يرون أنها تحد من فعالية عملهم الأمني وتشكك في حرفيته، في حين أنهم يعتقدون بكون العمل الأمني وحده الكفيل بمعالجة آفة الإرهاب دون غيره من الخيارات، كما يعتقد هؤلاء أن بقية المقاربات الاجتماعية، الاقتصادية، النفسية، والتربوية هي مسائل ذات أهمية ثانوية وترف لا يحتاجه العمل الأمني في تعامله مع الظاهرة الإرهابية.
باستثناء عدد القتلى والجرحى وطريقة تنفيذ الهجوم لا نعلم إلى حد الساعة كيفية وصول المنفذ إلى مكان الاعتداء، ولا كيفية حصوله على المعلومات حول حافلة الأمن، ولا سبب وصوله إلى هناك دون أن يتفطن له أو أن يشتبه به أحد، ولا من وكيف صنع حزامه الناسف.
الأكيد أن تقدم التحقيقات كفيل بالإجابة عن الأسئلة ذات الطابع الجنائي، أما سياسيًا فبعد الهجوم على متحف باردو، عملية قتل السياح في سوسة، محاولة اغتيال النائب رضا شرف الدين، قتل الرعاة في المناطق الجبلية، وتكرر حوادث التعذيب وسوء المعاملة داخل أقسام الشرطة ومراكز الإيقاف، بعد كل هذا هل بات من الضروري المطالبة باستقالة وزير الداخلية؟ أم أنه بدوره يتحمل مسؤولية ووضع وسياقات لا ناقه له فيها ولا جمل.