يأتي هذا الأسبوع على العاصمة التونسية حافلًا بالسينما عبر أيام قرطاج السينمائية، يشهد هذا المهرجان العريق نسخته الـ26، ويعتبر أول مهرجان سينمائي دولي في العالم العربي، حيث يسبق مهرجان القاهرة بـ10عشر سنوات.
يحاول المهرجان كما في كل دورة من دوراته الأخيرة، أن يذكر التونسيين بأن هناك فن اسمه السينما، وأن في تونس لا تزال هناك قاعات سينمائية لم تتحول بعد إلى متاجر بيع ملابس مستعملة، أو محلات بيع الفطائر، وكعادته، ورغم تركيزه على محيطه العربي والأفريقي والمتوسطي، يحاول المهرجان أن يفتح نافذة على سينما العوالم الأخرى، فنجد أحيانا حضورًا مكثفًا للسينما الإيرانية بتكريم سيد رضا ميركاريمي أو عباس كيارستمي، أو الأمريكية الجنوبية، أو اليابانية عبر روائع هياكو ميازاكي وغير ذلك كثير.
ومنذ إعلان مديرة الدورة السابقة، السيدة درة بوشوشة أن الأيام سوف تصبح سنوية، بات الجميع متشوقًا لما ستحمله الدورة السادسة والعشرون من جديد، كأول نسخة من النظام الجديد، والحقيقة أن ما يبدو يبشر بشيء من التغيير، فقد أعلن مدير المهرجان، إبراهيم اللطيف، أن النسخة الجديدة ستعود بالمهرجان إلى منبته، وإلى أسسه التي أرساها المرحوم الطاهر شريعة، ودعم ذلك بصورته على المعلقة الرسمية للدورة برفقة عصمان سمبان أب السينما الأفريقية، كما دعمت النسخة الحالية ما سبقها من محاولة للامتداد على مختلف مناطق البلاد وإقامة عروض خارج قاعات العاصمة، بل برمجت عروضا في بعض السجون وفي جامعة منوبة.
يمكن أيضًا الإشارة إلى تزايد العناية بالعناوين المقترحة، سيتمكن المشاهد التونسي من مشاهدة إصدارات جديدة لمخرجين كبار، مثل وودي آلن (رجل غير عقلاني)، كارلوس ساورا (أرخنتينا)، وجاك أوديارد (ديفان الفائز بالسعفة الذهبية)، ناني موريتي (أمي)، باولو سورنتينو (شباب)، وعناوين أخرى مهمة.
أما المسابقات، فقد حافظت على طابعها القديم؛ حيث نجد مسابقة رسمية للأفلام الطويلة (17 فيلمًا مرشحًا)، ومسابقة للأفلام القصيرة (13 فيلمًا مرشحًا)، وأخرى للأفلام الوثائقية (16 فيلمًا مرشحًا)، وفي المقابل، أحدثت مسابقة جديدة للفيلم الطويل الأول بعدما كانت تمنح جائزة وحيدة (20 فيلمًا مرشحًا)، ومسابقة للسينما الواعدة مخصصة لطلبة السينما (15 فيلمًا مرشحًا)، هذا بالإضافة إلى جائزة الكريديف لأفضل مخرجة فيلم طويل في المسابقة الرسمية، وجائزة الاتحاد العام التونسي للشغل لأفضل تقني في الأفلام الطويلة والقصيرة (تهتم النسخة الحالية بمهندسي الديكور).
من الواضح إذن أن هناك رغبة في تقديم أيام سينمائية ذات مستوى فني وذوقي محترمين، لكن ماذا وراء الرغبة؟ وماذا يبطن ظاهر المهرجان؟ وهل ينجح في إصلاح ذات البين بين المشاهد التونسي وقاعة السينما؟
الحقيقة أن الأيام لا ولن تخلو من مشاكلها السابقة، ولن تنجح الدورة في محاربة بعض السلوكات البذيئة داخل قاعات العرض (أكل، ضجيج، إلخ) وخارجها (التهافت على الدعوات، والتراخيص لتجنب دفع ملاليم قليلة)، ولن تنجح في إرساء تنظيمًا محكمًا يتجاوز الإخلالات الكبيرة خصوصًا يومي الافتتاح والختام، وفي العروض التونسية الجديدة، كما أن الإدارة رغم سعيها لتقديم المعلومة الوافية، ستظل تعاني من قدرتها على تقديم ما يلزم في هذا الخصوص، فذلك الذي لا يعرف العاصمة، سوف يرهقه البحث عن بعض القاعات، ورغم تقديم تطبيقات هاتفية لا بأس بها، إلا أن نقائصها لا تليق بمهرجان تشرف عليها وزارة الثقافة؛ دخول بحساب فيسبوك بما يعني إجبار المستخدم على امتلاك واحدًا، والتعامل باللغة الفرنسية دون غيرها، غير أن مسألة اللغة هذه تعودنا عليها بالفعل، ولم يعد مستنكرًا أن يتحدث المثقفون التونسيون باللغة التي درسوا بها الأشياء ورأوا بها العالم، دون أن يلقوا بالًا إلى أنها ليست اللغة التي يرى بها العالم مخاطَبوهم، لكنني لا أزال أنظر بشيء من الدهشة إلى موقف وزارة الثقافة من ذلك، ولا يزال استعمال الفرنسية، في المحافل التي تُشرف عليها دولة تعلن صراحة في دستورها أن العربية لغة البلاد الرسمية والوحيدة، يلقي في قلبي مزيجًا من الحيرة والأسى.
لقد كان حفل الافتتاح موحيًا بمكامن الدورة، وبرؤية السينمائي التونسي الثقافية، اهتمام مرضي بالسير فوق بساط أحمر تعويضًا ربما على العجز عن السير فوق البساط الفرنسي الشهير بكان، ولئن كان الظهور في كان تتويجًا للإنجازات الكبيرة، فإن السير في قرطاج يبدو كنوع من الإنجاز بحد ذاته، وفي حين اهتم كثير من السينمائيين (أو المحسوبين على السينما) بهذه اللحظة التاريخية، فقد اهتم المشاهد التونسي أيضًا بكساء هذه وفستان تلك، لتكتمل الصورة المجازية لسوء الفهم التاريخي الذي يربط الجمهور بالسينما، ففي حين يحاول السينمائي التونسي تقديم دروس حضارية، يبحث المشاهد التونسي في الصورة السينمائية عن الدروس الأخلاقية، بينما ينسى كلاهما – ربما – الجانب الحسي الذي يميز الفن عن المحاضرة، كما ربما ينسى السينمائي التونسي في غمرة تعبيره عن ذاته أنه لا يعبر إلا عن نفسه لا عن التونسيين جميعًا، وينسى المشاهد أيضًا أن مخاطبه ليس مطالبًا بالتعبير عنه.
مع ذلك، لا يمكن التغافل عن بعض الإبداعات التونسية التي مرت عبر هذا المهرجان، ولا يمكن التغافل أيضًا عن التعبيرات السينمائية الجديدة التي تحاول أن تتجاوز تيار مخرجي السبعينات والثمانينات، يقدم هؤلاء أعمالًا عديدة في الدورة الحالية، ومنها فيلم “عزيز روحو” لسنية الشامخي، و”شبابك الجنة” لفارس نعناع.
فعل تنجح هذه الأعمال في الظفر بود الجمهور؟ يبدو لي أنها الجائزة الأصعب في هذا المهرجان.