كما (جاد الغيث) في موشحة ابن الخطيب الشهيرة والتي يقول في مطلعها:
جادك الغيث إذا الغيث همى *** يا زمان الوصل بالأندلس
فقد جاد الأندلسيون على الأدب العربي بفن الموشحات الذي أحدث نقلة نوعية في نظم الشعر العربي ونمطيته.
والأندلسيون بحسب الباحثين الشرقيين هم العرب الذين رحلوا من مواطنهم واستقروا في إسبانيا بعد دخول المسلمين إليها، أما المستشرقون الإسبان فيرون أن الأندلسيين ليسوا سوى إسبان مسلمين، لغتهم العربية ودينهم الإسلام، وذلك في محاولة من كل طرف أن ينسب حضارتهم إليه.
وبعيدًا عن هذا الاختلاف، فإن ما لا يختلف عليه الباحثون هو أن الشعر العربي قد شهد ثورة أدبية جديدة بدخول فن الموشحات عليه، حيث لم يكن العرب قد عرفوه قبل الأندلس.
ظهور الموشحات
نستطيع القول إن بداية ظهور الموشحات كان في فترة حكم عبدالله بن محمد الأول أواخر القرن الـ9 الميلادي، وبسبب ازدياد الاحتكاك بين العنصر العربي والعنصر الإسباني في المجتمع الأندلسي فقد ظهرت حاجة ملحّة لوجود نتاج أدبي يجمع بينهما، فكانت الموشحات باللغة العامية أو ما يطلق عليها “الشعر الشعبي”، والتي جمعت بين الألفاظ العربية والألفاظ الرومانثية، لغة الإسبان عند قدوم العرب إليهم، واستمر الحال على ما هو عليه حتى عهد ملوك الطوائف حيث تم اعتماد اللغة الفصحى للموشحات واللغة العامية للزجل.
وقد كان لقدوم الموسيقي “زرياب” من بغداد إلى قرطبة الأثر الكبير في تعلّق الأندلسيين بالغناء والموسيقى، فعملوا على استحداث نوع جديد من الشعر لمواكبة الموسيقى، لذا فإن أساس الموشح هو النَغَم والتلحين ومن ثم توضع الكلمات بعد ذلك طبقًا لهذه الأنغام.
رسم للموسيقي زرياب
بناء الموشح
يعتمد الموشح على تجميل الشعر لإظهاره بشكل أنيق وذلك من خلال التقابل بين أبياته، وقد اشتق اسمه من الوشاح، ليدل على معناه، ويختلف بناء الموشح عن القصيدة العربية، فكل فقرة (بيت) فيه تتكون من عدة أشطار وليست شطرين فقط.
يفتتح الموشح بـ”المطلع” ويختتم بـ”الخَرجَة”، والتي تكون باللغة العامية، أما جسد الموشح فإن كل بيت فيه يتكون من مجموعة من الأشطار تسمى “غصن” وفيها تختلف القافية من بيت إلى بيت ولكنها تتحد في البيت نفسه، ومجموعة أخرى من الأشطار تسمى “القفل”، وهذه تتحد قافيتها في جميع الموشحة، وبهذا استطاع الموشح أن يجمع بين حرية التنوع في قافية الأغصان وبين الالتزام في قافية الأقفال.
فنرى في الموشح:
لحظات بابليّة متعت قلبي عشقا
ولَمَى ثغر مفلَّج لائمي منه موقى
يختم فيه الوشّاح (اسم يطلق على من ينظم الموشحات) بهذه الأشطار:
ألبُ دِيَه اشت دِيَه دِيَ ذا العَنصَر حقا
بشتري مو ألمدبَّج ونشق الرمح شقا
والخاتمة هي مزيج من الألفاظ العامية والعربية؛ فكلمة (ألبُ) من alba بالإسبانية وتعني فجر، و(دِيَه) من dia وتعني يوم، وكلمة (إشت) تعني هذا، وهي بالاسبانية esta، وأما الفقرة الثانية فهي (يوم العنصرة) وهو عيد من أعياد الأندلسيين، وكلمة (بشتري) من الإسبانية vestire أي (سألبس)، و(مو) هي mio للملكية، والفقرة الأخيرة عربية بأكملها، وبهذا تكون الختمة:
هذا اليوم يوم فجري إنه يوم عيد العنصرة
سوف ألبس ثوبي المزين وأشق الرمح شقا
أول الوشّاحين
من مدينة قَبرة بالقرب من قرطبة، جاء أول من وضع فن الموشحات، وهو مقدّم بن معافى القَبْري، وتختلف الروايات في كيفية اختراعه لأولى الموشحات، فيقول المستشرق الإسباني Julian Ribera أن مقدّم القَبْري قد تأثر ببعض الأغنيات الجلِّيقية حيث كانت معظم البيوت الأندلسية تضم نساء من جلّيقية، وكانت لهن أغنيات خاصة يرددنها في الأفراح وللأطفال الصغار، بينما تقول الروايات الأخرى أن الموشحات قد أُخذت من الأغاني الشعبية الأندلسية المحلية.
أما من النساء فقد كانت أم الكرم بنت المعتصم هي أول شاعرة أندلسية تسهم في تأليف الموشحات، ومما وصلنا منها:
يا معشر الناس ألا فعجبوا
مما جنته لوعة الحبّ
لولاه لم ينزل ببدر الدجى
من أفقه العلوي للتُرب
حسبي بمن أهواه لو أنه
فارقني تابعه قلبي
تأثير الموشحات
من أبرز من تأثر بالموشحات الأندلسية، هم شعراء “التروبادور” في منطقة “بروفنس” جنوب فرنسا، حيث إن الشعر الأوروبي لم يكن يعرف نظام القافية من قبل، وقد تميزت أشعارهم بوجود المطلع كما في الموشحات، إضافة إلى الخَرجة في نهاية القصيدة وأسموها (finida).
ومن أشهر القصائد التي تأثرت بالموشحات الأندلسية هي قصيدة (الزرزور) لشاعر التروبادور marcabru.
رسم يمثل شعراء التروبادور
وهكذا امتد تأثير فن الموشحات من قَبرة في الأندلس إلى بروفنس في فرنسا ليكون أحد أهم الفنون التي جمعت ما بين الفنون الشعرية والموسيقية العربية والغربية ليثبت لنا أن الجمال يوحّد ولا يفرّق.
*المراجع:
– الموشحات الأندلسية، محمد زكريا عناني
– الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، أحمد هيكل
– الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور، محمد عباسة
– طراز التوشيح، صلاح فضل