نمر بمرحلة يصعب وصفها، ويمكنك تخمين أنك إذا كنت صاحب درجة من الثقافة وقدرات تحليلية وخبرة بحثية ما، فغالبًا أنت مُخير حاليًا ما بين أن تتحول – رغم سوء سمعة اللقب – إلى خبير إستراتيجي تعمق تصورات السلطة وتؤسس لانتهاكاتها وتقدم تنويعات على نغمتها المملة لبث أفكار ومخاوف بعينها، وبين أن تكون معزولًا وسط أوراقك تراهن على الوقت الذي تأخذ فيه أفكارك مكانها بين الناس، أما إذا حاولت أن تضع أفكارك محل اختبار ومناقشة ولو في إطار محكم ومحدود بـ”قوانين دولة” (غير ملتزمة بالقوانين أصلًا) فأنت معرض لضياع حقوقك وربما حريتك.
بالتأكيد الموضوع ليس مفاجاة لأي منا وسط دراما تعدد أنماط الانتهاك من المداهمة والقتل الفوري إلى الاختفاء القسري إلى القبض على عريس في ليلة زفافه إلى معتقلي العزاء والسحور والدرس.
ربما تصعب هذه الدراما اليومية المتصاعدة من لفت النظر للجريمة التي وقعت ضد أستاذي “هشام جعفر” باعتقاله بعد اقتحام مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية، التي أسسها ويرأسها حاليًا، وبصرف النظر عن الألم الشخصي العميق الذي أصابني بعد اعتقال أستاذ هشام الذي أشرف بمعرفته وبقربي منه وأدين له بالكثير (وعما تلاه مباشرة من اعتقال المميز الموهوب أستاذ حسام السيد)، بصرف النظر عن هذا الألم الذي أشارك فيه أسرته ومحبيه، أدعو لرؤية الأمر في إطار أوسع، إطار يبرز عقوبة السلطة لمثقف على كسر عزلته وفقًا لاختياراته، فأستاذ هشام لم يتماهى مع هذه السلطة ولم ينعزل، ولكنه حاول تطويع المساحة المتآكلة من المجال العام – رغم خطورة المجازفة – وعمل عبر مؤسسة مجتمع مدني، صاغ رؤيتها المرتبطة بتطوير الأفكار والبحث ودعم مبادرات مجتمعية، تعاون في أغلبها مع ما يعرف بمؤسسات “وطنية” وأخرى دولية ضمن أطر معروفة علنية وشفافة.
ما تعرض له أستاذ هشام من انتهاكات وأذى يوحي لأي متابع بأن الأمر لن يتوقف عنده، وأننا أمام استئناف خطوات متتالية لمصادرة المجال العام في مصر بشكل كامل.
إذا كنت قد حالفك الحظ مثلي بمقابلة أستاذ هشام جعفر منذ 15 عامًا، كنت ستقف أمام باحث جاد متأمل منكفئ أكثر على تطوير أفكاره ومساهماته، يحظى باحترام ومحبة من أساتذته وأصدقائه، وإذا كنت تصغره فحتمًا كان سيلفت نظرك مثلما كنا نراقبه بإعجاب وهو يحلل الأمور بدقة توحي باتساع ثقافته وقدراته البحثية.
المفارقة أن في مجتمع عادة ما يدفع فيه المنصب صاحبه للانغلاق والشللية، كان تولي أستاذ هشام لمنصب رئيس تحرير موقع إسلام أون لاين – في رأيي – دافعًا له على مزيد من الانفتاح يمكنه من تحمل المسؤولية، دفع المنصب أستاذ هشام لإعادة تطويع قدراته التنظيرية والتحليلية لإدارة الأفكار والناس.
ساهم هشام جعفر بقوة في دفع الموقع لنجاح كبير بخطوات واسعة وواعية، وكانت إدارة البشر تعني تورط أكثر في مشاكلهم المهنية بل والاجتماعية، بادل أستاذ هشام الجميع المحبة والاهتمام وحظى باحترام وتقدير عظيمين، ولمع كنموذج يصعب تكراره في الفهم والنشاط والرغبة في التجديد وقبول المختلف، بصورة لا يجاريه فيها حتى الأصغر سنًا.
يحتار الأمنيون في تصنيف تجربة إسلام أون لاين، لكن أستاذ هشام كان من بين الفريق الأساسي الذي صنع جمهور من المتابعين للموقع تفهم مع الوقت كيف كان الموقع مدرسة مهنية منفتحة على الواقع، تمتعت بدرجة كبيرة من الاستقلال وأُديرت بشكل استثنائي يتجنب استغلال العاملين، وهو ما قد يفسر كيف أنتجت التجربة أفكارًا عابرة للأيديولوجيات، وساهمت في تكوين كوادر وعلاقات إنسانية يصعب حصرها.
يتمتع أستاذ هشام بدرجة كبيرة من الوضوح والاتساق الأخلاقي، وقد يخطئ من لا يعرفه فيحسب أنها مثالية تفصله عن الواقع، لكنه يملك أدوات فهم هذا الواقع الكئيب ربما بشكل يفوق كثير من البرجماتيين، وهو فهم لا يمنعه من التسامح الذي لا يبذل مجهود في ممارسته لأنه قائم على اقتناع عميق بحرية البشر في التفكير والاختيار.
وعلى ذكر التفكير، يملك هشام جعفر إخلاصًا كبيرًا لفضيلة التفكير الغائبة، لذلك لم يكن غريبًا – بعد مصادرة حقوقه واعتقاله – أن يتندر زملاؤه وتلامذته بألم بعد ما تردد أنه يسعى لتعريف المفاهيم والمصطلحات للمحققين وتحرير معناها، حتى لو كانت تُطرح عليه عبر أسئلة واتهامات ملفقة، وهي درجة من الاستقامة في النظر والتحليل يصعب استيعابها هذه الأيام تحديدًا.
يصنع هشام جعفر انحيازاته بشكل مستقل، وهو أمر مربك لأنظمة وأجهزة مهمتها تصنيف الناس وتسديد الخانات.
يمكن أن يجيب نمط أستاذ هشام في الأداء والتفكير على سؤال إمكانية انتمائه لتيار أو لتنظيم بعينه، باختصار هو غير متلائم مع هذا الاختيار، لكنني أعتقد في الوقت نفسه أن استقلاله لا يمنعه من الإيمان بأن الأنظمة شبه المحترمة تحاسب الناس على وقائع وجرائم بعينها لا على محض اختياراتهم للانتماء لحزب أو لتيار بعينه.
على الاعتراف بأنني محظوظة بوجود عدد من الأساتذة المميزين في حياتي، ربما أستطيع الكتابة عنهم يومًا ما تفصيلًا بعد أن يسترد أستاذ هشام حريته ويكون بيننا، أساتذة تتعلم منهم عبر نموذج اشبه بتعلم صنعة وآدابها، نموذج للتعلم يخلط المناقشة، المراقبة والمعايشة.
لكن أستاذ هشام كان الأقدر من بينهم على مساعدتي في تحويل ما أطنطن به إلى خط أفكار واضح، أنا مدينة له بونس كبير وتبديد لوحشة الأفكار عبر جلساتي معه في مكتبه الملئ بالمتابعات، يبدأ بيننا النقاش ويستطيع هو كعادته أن يرسم خرائط الأفكار ويربط ما بين اليومي والقضايا الممتدة، وقد كان الأكثر دأبًا – خاصة مؤخرًا – على متابعتي ودفعي للبحث والكتابة، مجرد مراقبته في طريقة إدارته للعمل وللحوارات كانت تبعث على الراحة؛ الراحة لوجود شخص بهذه القدرة على الاستمرار في تحويل أفكاره إلى طاقة عبر قناعات لا يبذل أي مجهود في ادعاء الالتزام بها أو في دفع غيره لتمثلها، هو فقط يمارس ما يؤمن به.
حينما صودرت تجربة موقع إسلام أون لاين من قِبل إدارة جديدة وقف أستاذ هشام بجوار عدد كبير من أساتذة وزملاء في اعتصام للعاملين بالموقع، في مارس 2010، تضامن مع الموقع وقتها عدد من المدونيين والباحثين والنشطاء، وبعد إغلاق الموقع كان أستاذ هشام الأكثر إصرارًا على أن يبدأ عمل يربط فيه بين الإعلام والمجتمع المدني، ويعيد تعريف التنمية الإنسانية عبر أنماط إدارية أكثر استقلالًا وتعددًا.
في رأيي أن المسافة بين الإصلاحي والثوري تتقلص لدى هشام جعفر وتصبح اختياراته أكثر تركيبًا من السائد عمومًا، انحيازه لثورة يناير وتعريفه للحظة رحيل الفرعون لأول مرة في تاريخ مصر، لم يمنعه من مراجعة مسارات الثورة واستخدام أدوات النقد والتحليل لأداء الأطراف المختلفة من التيارات الثورية إلى مؤسسات الدولة إلى الإسلاميين، خاصة أثناء وجود الإخوان في السلطة، واستمر في المحاولة حتى بعد إزاحة الإخوان من السلطة وسط عنف غير مسبوق من أجهزة الدولة وتصدعات مجتمعية كبيرة، وكان هدفه عبر هذه المراحل المختلفة السير باتجاه مجتمع أقوى عمومًا، واسترداد الناس للدولة ومنفعتهم، وهو في هذا ينفتح كعادته على طيف واسع من الفاعلين تتفاوت درجات الاتفاق والاختلاف فيما بينهم، قد يختلف البعض معه في تقييم ما ذهب إليه من اجتهادات، لكنك لا تملك سوى احترامه على ما أسس له من عمل بحثي ومجتمعي وسط ما نعايشه الآن.
قابلت أساتذة وأصدقاء يروا أن ما تصدى له هشام جعفر في عمله عبر مؤسسة مدى – من تطوير بحوث وبرامج فض النزاعات الأهلية، أو تقديم أفكار لربط العمل البرلماني بالمجتمع المدني، أو تطوير الخطابات والمناهج الفكرية لرؤية قضايا المرأة والأسرة في الإسلام، وغيرها من خطوط اهتمام – هو نموذج ناجح في تحويل الأفكار النظرية لتطبيقات، وهو أمر ظهر تعثر أقسام العلوم السياسية والاجتماعية بالجامعات والمراكز البحثية في تحقيقه؛ تعثر برز بوضوح بعد الثورة ومراحلها الانتقالية المختلفة، وانعكس في ندرة توفر الكوادر السياسية والبحثية القادرة على رفع الواقع ومفاوضة السلطة، دون التماهي معها، بهدف خدمة الناس.
لقد استطاع هشام جعفر عبر السنوات القليلة الماضية أن يؤسس لعمل نوعي جديد يُضاف لما قدمه سابقًا، واحترف تحويل الأفكار لبرامج عمل حتى لو كان عبر نماذج مصغرة ومحددة، وتركزت متعته في الإنجاز، ربما لهذا كان قلق ابنته الصغرى “ربا” لأنها تعرفه وتتخيل معاناته، ليس فقط لأنه الآن معتقل في أسوأ سجون مصر، العقرب، حيث الحرمان من أبسط الحقوق، ولكن لأن الاعتقال يعني توقفه عن عمله الذي يعشقه.
تذكرت وأنا أكتب عن أستاذ هشام زيارة للدكتور أحمد عبد الله رزه في 2001 في مركز الجيل الذي أسسه بمنطقة عين الصيرة، أشار المناضل الطلابي للمساحة التي يحتلها المركز وأخبرنا أنه قد “حرر” هذه القطعة من الأرض وهو يعمل عبرها، كان مركزه يصدر دراسات هامة عن الشباب والحركة الطلابية وكان ينشط وسط الأطفال العاملين في المحاجر المحيطة بالمنطقة، كان المشهد وقتها – بالنسبة لى – مثيرًا للحزن أن يتم اختزال كل أحلام التغيير بعد هذه السنين في هذه المساحة المحدودة رغم نبل أهدافها، الآن أكتب عن أستاذ هشام ونحن نفتقد حتى لهذه المساحات المحررة من المجال العام التي تسمح لمثقف أن يختبر أفكاره، بل وأن يودع المثقف سجن عقابي مشدد لمجرد أنه يقوم بعمل بحثي وحواري معلن، ويحدث هذا في إطار تصاعد غير مسبوق للانتهاكات والانحطاط بوجه عام.
يمكننا الاعتراف بالهزيمة، ولكن يصعب الاستسلام الكامل أمام مصادرة الحقوق والأفكار.
للتوقيع على بيانات مطالبة بإطلاق سراح هشام جعفر وحسام السيد