ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت جانين دي جيوفاني ونوح غولدبرغ
في مؤتمر المنامة السنوي بالبحرين، عُقدت قمة أمنية لنخبة الشرق الأوسط في أواخر أكتوبر الماضي، وكان المتحدث الرئيسي هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
محاطًا بكتيبة من الحرس الشخصي، توجه المشير السيسي بخطابه إلى جمهور الوزراء والدبلوماسيين وكبار المسؤولين بوزارة الخارجية الأمريكية، وتحدث عن دور مصر في الصراعات في سورية واليمن وليبيا، ولكن القلق المحوري الذي كان يساور الجنرال العسكري، والذي خدم في صفوف الجيش المصري منذ سن الـ23، كان يتمثل بصعود الفصائل المسلحة في الشرق الأوسط، “نحن قلقون إزاء تراجع الدولة الوطنية وسيادة القانون جرّاء نشاطات الميليشيات المسلحة”، أكد السيسي أمام الجمع، قبل أيام فقط من انفجار طائرة الركاب الروسية في صحراء سيناء، في حادثة تطرّد الدلائل لتشير بأنها تفجير نفذته جماعة تابعة للدولة الإسلامية (داعش).
بعد أن تمت الإشادة به في المنامة، حيث التقى بوزير الدفاع الألماني وكبار الشخصيات الأخرى، طار السيسي إلى الوطن لبحث أزمة الطائرة الروسية والتحضير لزيارته الرسمية إلى بريطانيا، حيث كان من المقرر أن يجتمع مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بعد فترة حذر غربية تزامنت مع صعوده إلى السلطة في مصر، وأكدت زيارة السيسي لبريطانيا حقيقة تصدره لقمة الجدول الدبلوماسي الدولي، بعد بضعة أسابيع فقط من انتخاب مصر لعضوية مجلس الأمن الدولي.
السيسي في خطابه بالمنامة – البحرين
مصر ليست الوحيدة بين بلدان المنطقة، فباستثناء تونس، التي شهدت بعضًا من التحول الديمقراطي الذي بقي ضعيفًا ومهلهلًا بدليل توجه أعداد كبيرة من الشبان الساخطين للالتحاق في صفوف داعش، لاقت دول الربيع العربي صعوبات جمة في تحقيق هدف شعوبها للانتقال إلى نظام أكثر استقرارًا وديمقراطية.
السوريون اصطدموا بأقسى أنواع المعاناة، حيث تحولت الانتفاضة الشعبية السورية إلى حرب أهلية طاحنة، انحدرت إلى طريق دموي مسدود، مع مزيج مختلط من الجماعات المتمردة التي طغى عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وتفاقمت الأمور سوءًا جرّاء التدخل الروسي بالنيابة عن الرئيس بشار الأسد؛ مما أفضى إلى المزيد من الدمار من خلال الغارات الجوية، وبالمحصلة، لا يلوح حتى الآن أي حل للأزمة السورية في الأفق، والوضع يشير إلى احتمالية تمكّن الأسد بالبقاء متشبثًا بالسلطة.
بالنسبة للغرب، حظت ليبيا بآمال عظيمة وبراقة، لدرجة دفعت حلف الناتو للتدخل في البلاد عام 2011 لمساعدة المتمردين للتخلص من معمر القذافي، ولكن مع سقوط الزعيم الليبي، انحدرت البلاد إلى الفوضى، وازدهر المتشددون الإسلاميون، وحاليًا، يتناحر فصيلان مسلحان على حكم ليبيا، الأول يتمثل بالحكومة المعترف بها دوليًا والتي تم نفيها شرقًا إلى مدينة طبرق، والثاني هو الإدارة البديلة بقيادة قوات فجر ليبيا التي تتمركز في العاصمة طرابلس.
بالتوزاي مع مساعي الأمم المتحدة للتوسط لتأسيس حكومة وحدة وطنية في البلاد، يظهر اسم خليفة حفتر بشكل متزايد كأقوى رجل في البلاد، حيث قاد الأخير عمليات عسكرية موسعة ضد جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا وغيرها من الجماعات المسلحة، وظفر بتأييد البرلمان في “محاربة الإرهاب” في شتى أنحاء البلاد.
تحول حفتر بولاءاته لأكثر من مرة على مدى السنين الماضية، حيث أعرب عن تأييده لانقلاب عام 1969، الذي أطاح بالنظام الملكي القديم وجلب بالقذافي إلى السلطة، ومن ثم عمد إلى مناهضة القذافي، ويُقال بأنه تلقى تدريبًا على يد ضباط المخابرات الأمريكية في خضم المحاولات الأمريكية للإطاحة بحليفه السابق، وخلال الثورة الليبية، ترك حفتر منزله في شمال ولاية فرجينيا للانضمام إلى القوات المناهضة للقذافي، محاربًا إلى جانب العديد من قادة الميليشيات الذين يهاجمهم اليوم.
حفتر يتبع النموذج المصري، ويحاكي نهج السيسي في صب جميع الإسلاميين ضمن قالب الأعداء الأشرار والإرهابيين، واعدًا بسحق الميليشيات في الجزء الشرقي من البلاد، ومشددًا على ضرورة قمعهم لخلق النظام في ليبيا، “أحد أهم الأوراق التي يلعب عليها حفتر تتمثل بشعور انعدام الأمان المتزايد”، يقول حميد من معهد بروكينجز، ويتابع، “إنه يعول كثيرًا على مفهوم تفكك النظام، تمامًا كما يقول جميع طغاة العالم العربي، انظروا ما الذي فعله الربيع العربي!”.
الجنرال خليفة حفتر في مؤتمر صحفي في قاعدة بنينة الجوية في بنغازي – ليبيا في 24 مايو 2014
إذا اتجهنا غربًا ضمن الشمال الأفريقي، نجد بأن الأوضاع في المغرب تستقطب القلق أيضًا، فرغم وجود دستور مكتوب في المغرب، إلا أن البلاد تتبع نظامًا ملكيًا لا ينتهج مبدأ الفصل بين السلطات، حيث تتركز جميع القوى السياسية والاقتصادية والسلطة الدينية بالقصر الملكي في الرباط، علمًا أن جميع الإصلاحات التي نفذها الملك محمد السادس منذ توليه السلطة في عام 1999، لم تضمن التحول إلى الديمقراطية.
احتجاجات شوارع عصر الربيع العربي فقدت زخمها في المغرب، ويعود ذلك جزئيًا إلى الحملة القاسية التي مارستها الشرطة، ومنذ ذلك الوقت، لم تقم الحكومة المغربية بأي تحرك تجاه منح المزيد من الحريات، “الديمقراطية في المغرب طريق ذو اتجاهين، والبلاد اليوم تسير في الاتجاه المعاكس”، يقول تقرير صدر مؤخرًا على موقع Open Democracy غير الربحي.
الوضع في شبه الجزيرة العربية ليس بأفضل حالًا، فدول الخليج وقوات أمنها ضمنت عدم اكتساب الربيع العربي لأي زخم أو تأثير يذكر هناك، عدا البحرين، التي شهدت منذ فترة طويلة موجات من التوترات الطائفية نتيجة لتمتع البلاد بأغلبية شيعية تقدر بنحو 60% يحكمها نظام آل خليفة الملكي السني، ولكن الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية التي اندلعت في البلاد في عام 2011، سُحقت بسرعة وفعالية، بمساعدة من الجارة السعودية.
تحالف أمريكا مع البحرين، حيث تمتلك البحرية الأمريكية قاعدة حيوية لعملياتها في المنطقة، يوضح السياسة طويلة الأمد التي اتبعتها واشنطن في الشرق الأوسط والتي تتمثل بتفضيل البراغماتية على المثالية، “لقد التزم باراك أوباما الصمت حيال البحرين”، تقول كينينمونت من تشاتام هاوس، وتضيف، “لقد انتهج النظام البحريني سياسات أكثر قمعية بكثير، وهم لا يدّعون بأنهم ديمقراطيون، بل يقولون علنًا بأن الديمقراطية ليست مناسبة لهذا الجزء من العالم”.
بعض المصابين من المؤيدين لمرسي في مشفى مؤقت بساحة رابعة بعيد شن الجيش لمجزرة رابعة
بالإضافة إلى البحرين، تتمتع المملكة العربية السعودية أيضًا بعلاقات وثيقة للغاية مع واشنطن، بغض النظر عن سجلها المخزي والمريع في مجال حقوق الإنسان.
يبدو أن الحكومات الغربية ارتضت بعقد اتفاقات مماثلة مع السيسي؛ ففي الربيع الماضي، رفعت إدارة أوباما حظر المعونات العسكرية عن مصر بعد أن علقتها إبان خلع مرسي، والسبب الرئيس لرفع الحظر، كما يقول أوباما، “الحاجة الماسة لتمويل الحكومات التي تحارب داعش في المنطقة”، كما أن أوروبا كسرت جليد العلاقات مع السيسي أيضًا، مع قيام فرنسا بزيادة نسبة مبيعات الأسلحة لمصر.
كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، ينعت هذه العملية باسم “تقوية الفرعون الجديد”، حيث يقول، “السيسي لا يرمز لعودة الديكتاتورية العربية فحسب، بل يرمز أيضًا لتكثيف الممارسات الديكتاتورية، فالقمع الذي يمارسه السيسي أسوأ مما كان ممارسًا في حقبة الرئيس السابق حسني مبارك، والرد الغربي المتمثل باحتضان السيسي هو تصرف في غاية السوء”.
يشير السيسي إلى أن عملية التحول إلى الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بسرعة في مصر، لأنها تحتاج لسنوات لبناء المؤسسات التي تدعمها، “الديمقراطية تُعنى بالإرادة والممارسة”، يوضح السيسي.
خلص الكثير من الأشخاص داخل وخارج المنطقة إلى أن الديمقراطية التي يتمتع بها الغرب ليست مناسبة، بشكلها الغربي، للعالم العربي، حيث يقول الأكاديمي السعودي ماجد بن عبد العزيز التركي، من مركز الرياض للإعلام والدراسات الروسية العربية، بأنه من الخطأ أن تفرض الدول الغربية وجهات نظرها حول موضوعات، كحقوق المرأة وحقوق الأقليات، على الدول التي لا تتقبل هذه الآراء، ويصف هذه التصرفات باسم المحاولات “الاستعمارية”.
الشباب البحريني، متوشحًا بالعلم الوطني، يرفع علامة للنصر تزامنًا مع خروج الآلاف من أنصار المعارضة البحرينية الشيعية في مسيرة باتجاه دوار اللؤلؤة في المنامة في 22 فبراير 2011
تقول كينينمونت بأن جزءًا من رونق وجاذبية السيسي تجاه الغرب، ينبع من كونه يصور نفسه على أنه الحامي الوطني والمناضل ضد الإرهاب العالمي، وهو تكتيك يستخدمه الزعماء المستبدين الآخرين مثل فلاديمير بوتين في روسيا، بشار الأسد في سورية، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وكذلك ملوك السعودية وقطر، “بعض الأشخاص يفضلون التمتع بالأمن ورؤية أسرهم تعيش بأمان، أكثر من رغبتهم بالتمتع بالديمقراطية” تقول كينينمونت، وتضيف، “ولكن الأمر لا يتعلق بثقافة الشعوب، بل إنها قضية إنسانية”.
مرور أكثر من عقد على الفوضى والعنف الطائفي في العراق منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وخلعت خلاله صدام حسين، ساعد على تعميق الشعور بتفضيل الأمن على الديمقراطية، “هناك تقليد طويل من الاستبداد في العالم العربي لأسباب كثيرة”، يقول إيمانويل كاراجيانيس من كينجز كوليدج لندن؛ فالبلدان التي كانت تاريخيًا مجتمعات قبلية وإقطاعية، استمرت بدعم حكم الطغاة والملوك من خلال السيطرة على وسائل الإعلام والقضاء وقوات الأمن، فضلًا عن اضطهاد المرأة، ونشر الفساد والمحسوبيات، وعادة ما يصبح الجيش المؤسسة الأعتى ضمن هذه المجتمعات.
“تحرص هذه المجتمعات، التي تسيطر الدولة على اقتصادها، على دعم بعض القطاعات الاقتصادية المحددة التي لا تسمح ببزوغ طبقة وسطى ضمن المجتمع”، يقول كاراجيانيس، ويضيف شارحًا، “إذا لم يكن لديك طبقة وسطى، فلن يصبح لديك ديمقراطية”.
تشكو أغلب جماعات حقوق الإنسان من أن المراقبين من غير العرب يعانون من صعوبات جمة عندما يحاولون المساعدة على تعزيز الديمقراطية في البلدان العربية، حيث يشير كاراجيانيس بأن قبول الناشطين العرب لمساعدة الغرب بعملية التحول الديمقراطي يمكن أن تكون خطيرة للغاية، لأنها قد تؤدي إلى وصمهم باعتبارهم جواسيس للغرب، “التغيير الديمقراطي، إذا حصل، يجب أن ينبع من الداخل”، يصر كاراجيانيس، ويضيف، “بذور الديمقراطية زُرعت من خلال الربيع العربي، لقد غيّرت هذه الثورات كل شيء، ولا وسيلة للتراجع عن ذلك، ولكن الطريقة الوحيدة لدعم هؤلاء الأشخاص الشجعان هي بدعمهم أخلاقيًا وليس ماليًا”.
من الصعب الحكم على شعبية السيسي في مصر في هذه الأوقات؛ فاستطلاعات الرأي تُظهر بأن الجيش يحظى باحترام واسع، وتفويض من الشعب لاستعادة النظام، ولكن بذات الوقت يصعب تأكيد التقييمات الدقيقة للوضع الداخلي المصري، تبعًا لإسكات معظم المعارضين في البلاد أو نفيهم إلى الخارج، وترهيب الصحفيين أو حبسهم، حيث تبدت آخر حلقة من مسلسل قمع الصحافة باعتقال الصحفي حسام بهجت لعدة أيام في نوفمبر، بعد إعداده لتقرير أدان فيه العديد من أفراد الجيش.
أنصار السيسي يفوضونه باستعادة النظام والدفاع عن البلاد بمواجهة المتطرفين الإسلاميين، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين
“الصورة ليست واضحة”، تقول كينينمونت حول تقييم شعبية السيسي بمصر، وتضيف، “الأمر لا يبدو وكأنه تأييد عارم، فالشعب لا يتمتع بقدر كبير من الخيارات اليوم، وعليهم أن يختاروا بين النظام العسكري أو الإسلامي”.
الآن وبعد تزايد الأدلة التي تشير إلى تسبب الجماعات المتشددة التابعة لتنظيم داعش بإسقاط طائرة الركاب الروسية التي تحطمت في سيناء في 31 أكتوبر، مزهقة أرواح أكثر من 224 شخصًا، ستستمر قوات الأمن المصرية بمهمتها التي باشرتها مسبقًا بمحاربة متشددي الدولة الإسلامية في صحراء سيناء، ومن المتوقع أن يكثف السيسي عملياته ضد الجماعة بعد هذا الهجوم، وإذا تعلم السيسي درسًا من الأحداث الماضية، فسيغتنم هذه الفرصة لاتخاذ إجراءات أكثر قسوة ضد خصومه، متمتعًا بصمت الغرب المطبق حيال شدة الإجراءات القمعية، خاصة بعد حوادث باريس في 13 نوفمبر التي راح ضحيتها 129 شخصًا على الأقل.
“الدرس المحزن الذي تعلمناه من الربيع العربي، أو من سحق الربيع العربي، هو أن القوة الغاشمة وأعمال العنف تؤتي أكلها”، يقول حميد.
المصدر: نيوز ويك