لا أذكر انتخابات في دولة ديمقراطية، في السنوات العشر الأخيرة، تسببت في إسالة الحبر وإثارة الجدل على مستوى العالم بأسره مثل انتخابات الإعادة التركية في مطلع هذا الشهر نوفمبر/ تشرين الثاني، اللهم إلا انتخابات رئاسة أوباما الأولى. الفارق أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2008 مثلت سابقة تاريخية، وما إن كانت الولايات المتحدة ستوصل أمريكياً من أصول إفريقية إلى البيت الأبيض بينما لم تزل الثقافة العنصرية حية ترزق في الكثير من دوائر الحياة الأمريكية.
في تركيا لم يكن هناك مرشح أسود ولا أبيض، وليس ثمة من حزب حديث النشأة أو برنامج انتخابي بالغ الشذوذ والغرابة. دارت الانتخابات حول احتمال فوز حزب العدالة والتنمية، الذي سبق وفاز في كل استحقاق انتخابي، قومي أو محلي، وفي كل استفتاء شعبي، منذ 2002، ونهضته من الكبوة الصغيرة التي عاناها في انتخابات 7 يونيو/ حزيران الماضي وعودته إلى الحكم منفرداً. ولكن الجدل حول الانتخابات أخذ مساراً آخر في أغلبه.
بدلاً من أن يرى من تمنوا هزيمة العدالة والتنمية أن المفاجأة كانت في نتائج انتخابات يونيو/ حزيران، وأنه حتى وبالرغم من التراجع الطفيف في حظوظ الحزب فقد ظل صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر، أصبحت المفاجأة في نجاح الحزب في انتخابات الإعادة وفي عودته إلى الحكم منفرداً.
مشكلة الخطاب حول تركيا، الذي ساهم فيه ليبراليون وعلمانيون، عرب وغربيون وأتراك، قوميون ومتصوفة، أنه كان في جله انعكاساً لعالم الأمنيات، وليس خطاباً واقعياً، يرتكز إلى معرفة صلبة بتاريخ وسياسة البلاد ومزاج شعبها وتوجهاته. ولم يكن غريباً بالتالي أن تخرج الإيكونومست، الأسبوعية الأكثر تأثيراً في دوائر السياسة والمال الغربية، في اليوم السابق للانتخابات، بافتتاحية تدعو الشعب التركي إلى عدم التصويت للعدالة والتنمية. ولكن المشكلة لا تقتصر على تركيا.
فمنذ انقلاب 3 يوليو/ تموز في مصر، وما تلاه من تخلي حركة النهضة عن الحكم في تونس، سارع كثير من المعلقين والخبراء إلى تبني خطاب “نهاية الإسلام السياسي”. وما إن جاءت انتخابات يونيو/ حزيران التركية بتراجع العدالة والتنمية عن المستوى الذي حققه في 2011، حتى بدا وكأن خطاب نهاية الإسلاميين قد حصل على دليله النهائي والقاطع. كيف أمكن لقوى سياسية أن تحقق في 2011 ـ 2012 ما يقارب من 50 في المئة من أصوات الناخبين، كما في حالة العدالة والتنمية، أو أقل من ذلك بقليل، كما في حالتي حزب النهضة التونسي والحرية والعدالة المصري، أن تصل إلى نهاية دورها السياسي في 2015؟ السؤال، بالطبع، ليس في فقدان المنطق والمعقول في هكذا فرضيات، ولكن في طغيان الأمنيات على حقائق الواقع الصلبة.
أغلب ما كتبه الدارسون العقلاء للحالة التركية بعد انتخابات الإعادة صحيح. أراد الشعب التركي في يونيو/ حزيران إيصال رسالة تحذير واضحة للحزب الحاكم، بعد أن أصاب العدالة والتنمية الترهل، وشابت اتهامات بالفساد سمعة بعض قيادييه ووزرائه، وبدا أن ثقة الحزب بفوزه بأصوات أغلبية الناخبين وصلت حد الاستهتار. ولكن الرسالة كانت ربما أثقل بكثير مما أرادها عموم الناخبين. بمعنى أن الشعب أراد تحذير العدالة والتنمية وليس منعه من الحكم منفرداً. خلال الشهور الخمسة التي فصلت بين المناسبتين الانتخابيتين، وقف الناخبون الأتراك شاهدين على عبث سيناريو الحكم الإئتلافي، والخطر الذي يمكن لحكومة إئتلافية أن تمثله على مستقبل البلاد، وذاكرة حكومات التسعينات الإئتلافية لم تزل حية بعد. كما شهد الأتراك كيف أن حالة القلق وفقدان اليقين السياسي أخذت تضر بوضع البلاد الاقتصادي، وبدورها في الساحتين الإقليمية والدولية. من جهة، عاد حزب العمال الكردستاني، وفي تقدير قصير النظر، من جديد إلى طريق الإرهاب المسلح، ومن جهة أخرى، بدا أن الحليف الأمريكي لم يعد يكترث كثيراً بالحساسيات التركية في الساحة السورية، سيما ما يتعلق منها بتقديم مساعدات عسكرية لفرع العمال الكردستاني في سورية.
في انتخابات مطلع نوفمبر/ تشرين ثاني، اعتبر الناخبون الأتراك أن العدالة والتنمية استلم رسالة يونيو/ حزيران الثقيلة، وأن من الضروري الآن الحفاظ على استقرار البلاد ودورها وموقعها.
هذه القراءة، وما يتعلق بها من تفاصيل، صحيحة إلى حد كبير. ولكن هناك ما هو أبعد قليلاً. فما كان واضحاً في انتخابات الإعادة ليس فقط أن العدالة والتنمية حقق فوزاً كبيراً، وأن نصيبه الانتخابي عاد إلى مستوى الخمسين في المئة من أصوات المقترعين، الذي حصل عليه في 2011، ولكن أيضاً أن الخاسرين الرئيسيين كانا الحزبين القوميين، التركي والكردي: حزب الحركة القومية التركي وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني. معاً، خسر الحزبان ما يقارب خمسة ملايين صوت، مقارنة بما حصلا عليه في انتخابات يونيو/ حزيران.
هذه الخسارة بالغة الدلالة، أولاً، لأنها تشير إلى أن الدعم الشعبي غير المتوقع للحزبين في انتخابات يونيو/ حزيران جاء من الصوت الاحتجاجي على أداء العدالة والتنمية، وثانياً، لأن الشعب التركي أدرك الخطر الكامن في الرؤية القومية المتطرفة لكلا الحزبين، الخطر على الدولة وعلى وحدة البلاد واستقرارها. وليس هذا درساً تركياً، وحسب. فما ينبغي إداركه أن المزاج الشعبي في كل أنحاء المشرق لا يتجه نحو تأييد البرامج والقوى القومية الراديكالية، البرامج والقوى التي تهدد بتشظي المشرق. المزاج الشعبي، في الحقيقة، يميل نحو بناء كيانات كبيرة، تتجاوز الأحلام القومية والإثنية الصغيرة.
المسألة الثانية التي تستبطنها نتائج انتخابات الإعادة التركية أن أياً من أحزاب المعارضة التركية ليس مؤهلاً للحلول محل العدالة والتنمية.
بفوزه في 63 محافظة من مجموع المحافظات التركية الـ 81، يؤكد حزب العدالة والتنمية مرة أخرى على أنه الحزب الوحيد الذي يمثل عموم الأتراك وعموم دوائر التنوع التركي الإثني والثقافي، وهو القوة السياسية الوحيدة القادرة على احتلال موقع مركز الثقل، أو العمود الفقري، للبنية السياسية التركية. هذا واقع صلب، يرتبط بصلة وثيقة بانهيار المركز السياسي للجمهورية التركية منذ منتصف السبعينات وخلال التسعينات، وبالمتغيرات الثقافية والسوسيو- سياسة للشعب التركي في نصف القرن الماضي. وليست الانتخابات الأخيرة هي المؤشر الوحيد على هذه الحقيقة، لأن من الصعب فهم الفوز الكاسح للعدالة والتنمية في انتخابات 2002، بعد سنة واحدة فقط من تأسيسه، بدون أخذ هذه المتغيرات في الاعتبار. وبصورة من الصور، هذا هو أيضاً ما ترسب في وعي الأغلبية التركية.
ففي مجتمع كان أحد أدعيته بعد كل صلاة جماعية، طوال قرون، “اللهم احفظ الدين والدولة”، برز حزب العدالة والتنمية سريعاً باعتباره القوة السياسية الوحيدة المؤهلة لحراسة المركز التركي.
في النهاية، ومهما كان الأمر، فإن الفوز الكبير في انتخابات الإعادة يلقي أعباء ثقيلة على حكومة العدالة والتنمية المقبلة، أعباء تتعلق بالإصلاح والمسألة الكردية، تماماً كما تتعلق بأزمات الجوار الإقليمي وتدافعاته. في نظام ديمقراطي، ليس ثمة حزب سياسي يتمتع بقداسة أو مناعة مستديمة. إن تعامل العدالة والتنمية مع ما تتطلبه تحديات تركيا وجوارها من كفاءة وحكمة فليس من المستبعد أن يحقق فوزاً آخر في 2019. أما إذا أخفق فسيطيح به الشعب، حتى إنْ لم يوجد له من بديل مقنع بعد