لم يخطر ببالي وأنا أُعد نفسي في الصباح الباكر وتحديدًا في تمام الساعة الرابعة فجرًا قاصدًا السفر نحو العاصمة تونس يوم الثلاثاء 24 نوفمبر الجاري أن رحلة الذهاب الهادئة ستعقبها رحلة إياب صاخبة.
بدأت رحلتي الروتينية مع القطار الصباحي قاصدًا العاصمة تونس – في طقس بارد يتخلله زخات مطر عابرة بللت ثيابي وبعثت الهدوء في فؤادي -وكان هذا القطار الذي يتنقل فيه المسافرون من الموظفين والطلبة اليوميين مليئًا وهادئًا مثلما هي العادة لأن الساعة وقتها لم تصل بعد إلى الخامسة فجرًا.
لن نطيل كثيرًا في سرد رحلة الذهاب لأننا وعدناكم بالتحدث عن رحلة الإياب التي عاينت فيها أصعب اللحظات بنفسي بسبب حالة الهلع والخوف التي رأيتها لأول مرة بادية ظاهرة على فئة كبيرة من التونسيين.
فبعد يوم دراسي جامعي ركبت القطار المتجه صوب مدينة سوسة الساحلية، وبعد أن حجزنا مقعدًا بشق الأنفس أردت أخذ قسط من الراحة وقررت النوم قليلا بسبب الإجهاد الذي لحق بي يومها، ولكن لم تمض دقائق معدودة على محاولة إغماض العينين حتى بدأ الركاب يضجون ويتناقلون خبرًا مفاده تفجير حافلة ركاب في شارع محمد الخامس بالعاصمة منذ دقائق ولا تفاصيل عن العملية إلى حد تلك اللحظة.
لم أعر الأمر اهتمامًا في اللحظات الأولى لسماع الخبر وذلك لأنني تعودت سماع الإشاعات التي يطلقها المرجفون بشكل شبه يومي، ولذلك لم أشأ سؤال المتحاورين والمسافرين المحللين الذين بدأوا استنتاجاتهم وتوقعاتهم وتصوراتهم وتحليلاتهم للحادثة قبل أن ينقشع ضبابها، بل بدأ البعض منهم باتهام جهة دون غيرها بالوقوف وراء هذه الحادثة التي لم يتحدد بعد لا الجهة التي استُهدِفت ولا أسبابها التي كنت أرجح شخصيًا أن تكون عطلاً فنيًا في حافلة مدنية، حينها سمعت رجلاً يكاد يبلغ الستين من عمره يسأل أحد الشباب العشريني الذي كان يستمع لإحدى الإذاعات الخاصة بواسطة هاتفه الجوال قائلاً “حافلة مدنية أو عسكرية”، فأجابه بأن الأخبار شحيحة إلى حد الآن.
في تلك اللحظة بدأ الشك يراودني وتمالكت نفسي مقررًا ألا أبدي اهتمامًا بما سمعت وبما يتحدث عنه المسافرون لأنني سئمت الإشاعات اليومية التي يتعلق أكثرها باحتمال وقوع أحداث إرهابية في مناطق متفرقة من البلاد، ولكن وبعد لحظات بدأ الخبر ينتشر وأضحت عربة القطار أشبه بمركز للاتصالات، فكل يتصل بصديق أو بزوج أو بزوجة أو بأب أو بأم يسأله عن صحة الخبر أو يطمئنه على سلامته.
بعد دقائق سمعت رجلاً في الخمسين من عمره يهمس لأحد الشباب الذي كان فاتحًا لحاسوبه المحمول ومشغولاً بالنظر فيه قائلاً له “افتح موقع كذا وكذا وتأكد من الخبر”، فأجابه الشاب غير مكترث “ليس عندي إنترنت وما الذي وقع بالتحديد”، فأردف الرجل “قيل إن حافلة تم تفجيرها في شارع محمد الخامس قرب مقر الحزب الحاكم القديم”.
تأكدت وقتها أن الأمر جد وليس هزلاً وأن الخبر أصبح يقينًا، فرأيت أنه من واجبي كصحفي أن أتأكد من الخبر بطريقتي الخاصة، فاتصلت بأحد الثقاة الذي أجابني فورًا بفضل متابعته المباشرة للقنوات الإخبارية بأن هجومًا إرهابيًا استهدف حافلة تنقل إما أمنيين وإما عسكريين وأن الأخبار الأولى تفيد بمقتل 11 راكبًا منهم.
لم أشأ ترك ذلك الرجل الخمسيني يتخبط لأنه لم يسأل أي أحد بعد ذلك الشاب، فأسررت له بصوت خافت ما حدثني به صديقي الثقة، فبدا عليه بعد حديثي معه القلق والأسف على ما وصل إليه حال البلاد.
خلال عشر دقائق أصبح الخبر واضحًا لكل المسافرين؛ فقد تناقلت كل المواقع الإخبارية والإذاعات الخاصة والعامة تأكيدات المكلف بالإعلام في وزارة الداخلية وليد اللوقيني بأن انفجارًا استهدف حافلة كانت تقل أفرادًا من الأمن الرئاسي وأن التفاصيل الأولية تفيد بإمكانية أن يكون الانفجار ناتجًا عن هجوم إرهابي.
وبعد دقائق من وضوح الرؤية تحول القطار إلى وكالة للأنباء كل يتابع فيها تفاصيل الخبر على طريقته، فهذا يتصل بعائلته وآخر بحبيبته للحصول على المعلومات أولاً بأول، حتى أن ذلك الرجل الذي أسررت له الخبر اليقين قبل دقائق اتصلت به عائلته وأبلغته تفاصيل الحادثة مثلما سردتها عليه.
كانت العادة أن يكون كثير من المسافرين في تلك الرحلة نائمين لتوقيتها المتأخر نسبيًا ولكن لم أر نائمًا واحدًا في العربة التي كنت جالسًا فيها رفقة العشرات، بل كان اهتمامهم منصبًا على سماع تطورات العملية التي تنقلها الإذاعات لحظة بلحظة، وكم كانت تلك الأخبار والتفاصيل مغلوطة كما هي عادة وسائل الإعلام المحلية.
فجأة رن هاتفي فإذا بوالدتي تتصل بي للاطمئنان عليّ والخوف بادٍ على صوتها ولكنني طمأنتها قائلاً “إنني في طريق العودة ولا تخافي وسيكون أبي في انتظاري في المحطة فلا تقلقي من ناحيتي”، فأقفلت الخط وفسحت المجال لاتصالين آخرين من صديقين يسألان عن سلامتي.
وبعد انتهاء الاتصالات الواردة والصادرة، سمعت نسوة يزعمون أنهن مررن بالشارع الذي وقعت فيه العملية أثناء عودتهن من عملهن وأنهن رأين سيارات الإسعاف والحماية المدنية وعربات الشرطة مسرعة باتجاه مكان الهجوم الذي طوقته وأغلقته قوات الشرطة والجيش بعد دقائق من وقوع الانفجار، ولكن عندما أردت الحديث معهم وسؤالهم عن حقيقة ما رأوه نزلوا من القطار في إحدى المحطات.
وقبل دقائق من الوصول إلى المحطة النهائية صاح أحد المسافرين قائلاً “هذا الإرهاب سببه حزب سياسي كان يحكم سابقًا وأن الحل يكمن في فصل الدين عن الدولة وأنه يحبذ أن تكون تونس لائكية”.
في الحقيقة لم أنل شرف الحديث مع ذلك الشاب الذي يبدو أنه جاوز الثلاثين من عمره بقليل، لأن مسافرين اثنين انبريا له بإجابة موحدة مفادها أن كل النخب السياسية في تونس بدون استثناء كانت سببًا فيما تمر به البلاد من ظروف صعبة، كما أضاف الرجلان بعض البهارات اللغوية التونسية والتي كانت أساسًا شتمًا للأحزاب السياسية بلا استثناء.
وبعد حوالي ساعتين من المسير وصل القطار إلى المحطة المقصودة ونزلت في جو بارد وممطر قاصدًا سيارة والدي الذي كان ينتظرني والذي كنت أنا أنتظره أيضًا لكي أقص عليه التجربة التي عشتها وسط القطار أثناء الحادثة والتي كانت مليئة بالتحاليل السخيفة بين فئة كبيرة من المسافرين من أمثال صديقنا اللائكي.