لا شك أن المتابع للشأن التركي، الذي أصبح يحظى بمتابعة كبيرة وواسعة مؤخرًا، سيجد أنه فقط خلال شهر نوفمبر الحالي قد سجلت تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية على الأقل 3 إنجازات كبيرة على مستويات متعددة، كان لها دور في المساهمة في رفع صورة تركيا كدولة ذات قوة إقليمية (Regional Power) وذات سيادة في المنطقة، ومن المهم الإشارة هنا أن كثافة الإنجازات في وقت قصير تجلب للدولة مكاسب في نظر الرأي العام المحلي والإقليمي.
لقد كان الإنجاز الأول في مطلع شهر نوفمبر، وتمثل في قدرة حزب العدالة والتنمية على استدراك أوضاعه وتنفيذ خطط منظمة، نجح من خلالها في تغيير قناعة المواطن التركي ليعطيه الثقة من جديد؛ ليستطيع الحزب أن يشكل الحكومة بمفرده ويتخلص من دوامة خلافات الحكومات الائتلافية، ولينعم بمزيد من الثقة عند اتخاذه القرارات على المستوى الداخلي أو الخارجي.
وقد لفتت الانتخابات التركية الأخيرة الأنظار في المجال الدولي والإقليمي وتابعها كثيرون، من أجل الاستفادة من التجربة الديمقراطية ومن الجهد والتكتيك الذي قام به حزب العدالة والتنمية ليحقق هذه النتيجة، التي فاقت توقعات محبيه كما أزعجت معارضيه ومناوئيه.
أما الإنجاز الثاني على صعيد إدارة التصور العام؛ فقد ظهر في تنظيم تركيا لقمة العشرين في مدينة أنطاليا منتصف الشهر الحالي، وقد لُمِس في تفاصيلها ومختلف مراحلها، التي تمت عبر يومين، كيف استقبل الرئيس التركي الزعماء العالميين وكيف تعامل معهم بندية تُظهر كيف يريد الأتراك لبلادهم أن تبدو بين الأمم، وفي هذا السياق قارن كثيرون مواقف رؤساء بلادهم بمواقف الرئيس التركي بل إن الأتراك أنفسهم قد قارنوا موقف رئيسهم بمواقف رؤساء أتراك سابقين .
أما الموقف الثالث فهو قيام الأتراك بإسقاط طائرة حربية روسية قامت باختراق المجال الجوي التركي بعد تحذيرها عدة مرات في الـ24 من الشهر الجاري، وبعد قيام الروس باستفزاز الأتراك مرتين خلال الشهر الماضي قام الأتراك بالتصريح بأنهم سيطبقون قواعد الاشتباك في حال تكرار انتهاك الأجواء، وقد كان الأمر يتعلق بكرامة تركيا، وبالفعل عندما تكرر الأمر لم يتوان الأتراك في إسقاط الطائرة الروسية، بالرغم من أن روسيا تعد دولة عالمية، وهي وريثة الاتحاد السوفيتي، والعضو الرئيس في مجلس الأمن، والتي ترتبط مع تركيا باتفاقيات أمنية واقتصادية، وإحدى الدول النووية التي تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، لكن تركيا بالرغم من تصريحها بأنها لم تكن تعرف هوية الطائرة لم تتراجع عن موقفها وأكدت على حقها في حماية حدودها من أي انتهاك، وأنها كانت ستفعل نفس الشيء مع أي دولة أخرى.
كما أن المدهش أن هذه أول مرة تقوم فيها دولة عضو في الناتو بإسقاط طائرة حربية روسية منذ بداية الحرب الباردة، وقد انتهزت تركيا الفرصة لتوصل رسالة إلى حوالي مليون ونصف مليون من أبناء القومية التركية في سوريا، الذين تعرضوا للقصف الروسي والتهجير في الأسابيع الماضية، أنها معهم ولن تتركهم وكذلك أيضًا فتحت أبوابها للاجئين السوريين، عرب وأكراد وغيرهم، بالرغم من كل الانتقادات التي طالتها.
إن الأمر المهم في الصعود التركي في نظر الرأي العام الشرق أوسطي هو تعبير عن شعور حقيقي مفاده أن السياسة التي تسير تركيا عليها هي الأقرب لما يطمحون إليه ولما يريدون تحقيقه في بلادهم، وقد شهدنا ذلك من خلال متابعة ردود الأفعال المختلفة من شتى البلدان العربية على الأمثلة المذكورة سابقًا، سواء الانتخابات البرلمانية أو تنظيم قمة العشرين أو إسقاط الطائرة الروسية.
ومن زاوية أخرى فإن تركيا التي ترفع أسهمها تُلهم بشكل أكثر صراحة شعوب المنطقة وتفتح الطريق أمامهم لرؤية النموذج، لكي يطالبوا بحقوقهم وبسيادة بلادهم التي تنتهك من قِبل القاصي والداني، والتي يمكن ضرب عشرات الأمثلة للتدليل على ذلك، ويُكتفى بما يقوم به طيران الكيان الإسرائيلي من العربدة في بعض البلاد العربية.
إن ما تعيشه تركيا من أحداث في الآونة الأخيرة يبعث على التفاؤل بإمكانية دفاع المنطقة عن مصالحها ولكن في نفس الوقت فإن تركيا لديها من بواعث القلق ما فيه الكفاية، كما أن التغيير في المنطقة يحتاج إلى تعاون وتشارك من أطراف عديدة يمكن أن تتجاوز ما سُمي محاور المنطقة في السابق، وما تولد من أزمات جديدة.