عشرون يومًا هي المدة التي قضاها الدبلوماسي الأمريكي المحنّك ريتشارد هولبروك في نوفمبر من العام 1995 يتفاوض مع قيادات البوشناق والصرب والكروات ليكتب نهاية الصراع الدموي بينهم، والأكثر دموية في القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ خرجت إلى النور آنذاك اتفاقية دايتون والتي اعتُبِرَت انتصارًا للدبلوماسية الأمريكية نجحت به واشنطن في وقف عجلات الحرب وإن انقسم البلقان بعدها إلى دول عدة، بيد أن وثائقًا جديدة أخرجها أرشيف الأمن القومي، ومركز سيمون – سكيودت التابع لمتحف ذكرى الهولوكوست الأمريكي، لأول مرة تشير إلى أن إدارة كلينتون لم تتعامل مع الأزمة بكفاءة كما صوّر الأمر سابقًا.
تكشف الوثائق الجديدة السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة يوميًا أثناء الصراع في البلقان، والتي وصفها مدير الشؤون الأوروبية بمجلس الأمن القومي أثناء حرب البوسنة كونها هدفت بالأساس لأن تعطي الانطباع بأن الأمريكيين يفعلون شيئًا، “بينما الواقع أنهم لم يكونوا راغبين في فعل أي شيء جاد”، فالوثائق تشي لنا بأن اتفاقًا سريًا وقع بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة تم بموجبه سرًا وقف عمليات القصف التي قام بها التحالف الغربي في ربيع 1995، وعدم الرد على طلبات قوات حفظ السلام الهولندية على الأرض بتعزيز الضربات الجوية، وهو التحول الذي أتاح للصرب ارتكاب مذبحة سربرنيتشا كما يقول الضابط الهولندي كيس ماتيسن، والتي دفعت حينئذ الغرب للتدخل إثر الصدمة التي أحدثتها المذبحة.
هل كان يمكن تفادي المذبحة إذن؟ أم أن وقوع المذبحة كان التصعيد الوحيد الذي أجبر التحالف الغربي على اتخاذ خطوات حاسمة لوقف الصرب؟ هل كان يستلزم الأمر مذبحة في النهاية لينكشف لصناع القرار في واشنطن وباريس مدى دموية ما يمكن أن يجري؟ ما يقوله العسكريون هو أن تفادي المذبحة كان ممكنًا حتمًا بالنظر لإمكانيات القصف الجوي، أما السياسيون فيقولون بأن أوراق اللعبة قبل المذبحة لم تكن أبدًا لتؤدي لقرارالقصف المفتوح الذي تم اتخاذه بعدها، وأن المذبحة، للأسف، هي التي لزم وقوعها حتى تتغير الحسابات السياسية، وهو ما تكشفه الوثائق في تحركات الدبلوماسية الغربية خطوة بخطوة.
الشلل الدبلوماسي والعسكري الغربي
في أول شهر من رئاسته في البيت الأبيض، قام بيل كلينتون بإعطاء التصريح للطائرات الأمريكية بإلقاء المعونات الغذائية والدوائية على مدينة سربرنيتشا شرقي البوسنة، والتي أصبحت في ذلك الوقت ملجأ المسلمين النازحين من القرى التي هاجمها الجيش الصربي، وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مادلين أولبرايت غير راضية عن سقف الأفعال الأمريكية، ورأت أن عدم اتخاذ موقف أكثر حدة على الأرض يشجّع الصرب على ارتكاب المزيد من الجرائم، مما دفعها لاقتراح مجموعة من “جيوب الحماية الأممية” تحت إشراف الأمم المتحدة وحماية القوات البرية الأمريكية والروسية والغربية مع دعم جوي أمريكي، ليتمكن البوشناق من اللجوء لها تمامًا كما فعل الأكراد بشمال العراق بعد الحظر الجوي أثناء حرب الخليج.
لسوء حظها وحظ البوشناق أيضًا، لم تلق مقترحات أولبرايت القوية تشجيعًا كبيرًا في دوائر صنع القرار الأمريكي، ليقرر كلينتون الموافقة على خطة اقترحها مستشاروه باستخدام القوة العسكرية في البوسنة فقط بعد موافقة الأطراف المتصارعة في البلقان على إطار حل سياسي، وهو ما كان يعني ضمنيًا استمرار الوضع على ما هو عليه نظرًا لصعوبة التوصل لاتفاق، لا سيما وأن إدارة كلينتون كانت قد اعتبرت المبادرة الدبلوماسية الأوروبية، المعروفة بـ “فانس أوين،” والتي اقترحت تقسيم البوسنة لعشر مقاطعات فيدرالية، خطة غير قابلة للتطبيق ولن تؤدي أصلًا لنشأة كيان بوسني متماسك، وهي خطة رفضها الصرب في نفس الوقت لتستمر حالة الشلل الدبلوماسي والعسكري الغربي.
في نهاية المطاف، وافقت الدول الغربية على خطة جيوب الحماية الأممية لحماية المسلمين، ليتم تأسيس ستة منها بالفعل بما في سربرنيتشا، غير أن مدى التزام تلك الدول باستخدام القوة الجوية بالفعل لحماية الجيوب كان أمرًا شائكًا، فصناع القرار الأمريكيين أبدوا شكوكهم في قدرة الأمم المتحدة على حماية تلك الجيوب، كما أن مستشاري الأمن القومي الأمريكيين آنذاك أكدوا لكلينتون أن واشنطن لا يجب أن تستخدم القوة الجوية لحمايتها، مما يعني أن خلق الجيوب كان نوعًا من السياسة الزائفة التي تعطي انطباعًا ليس إلا بأن الغرب قد اتخذ خطوة حقيقية، كما يقول أحد عضاء مجلس الأمن القومي الأمريكي أنذاك، “لقد رأى الكثير منا أن ما جرى كان خزيًا كبيرً”.
لعبة السياسة بين قوات الصرب وساسة الغرب
مشهد من ساراييفو بعد ضرب الصرب لها
بحلول أغسطس 1993 قررت الولايات المتحدة مع الأمم المتحدة والحكومات الأوروبية إعطاء التصريح باستخدام القوة الجوية شريطة أن يكون قرار استخدامها بيد الأمين العام للأمم المتحدة حينئذ بطرس بطرس غالي، والذي وافق بعد ستة أشهر على طلب من الدول الغربية ببدء القصف بالفعل إذا لم ينسحب الصرب كما طُلِب منهم خلال عشرة أيام من ساراييفو بأسلحتهم الثقيلة، غير أن المفاجأة التي وقعت في أبريل، هي أنه حين طلب قائد الأمم المتحدة في البوسنة بداية القصف الجوي ضد الزحف الصربي على مدينة جورازد، قام الصرب بأسر 150 من أفراد الأمم المتحدة كرهينة، ليشلوا تحرك السياسة الغربية، “لقد أدرك الصرب أنهم يستطيعوا تكبيد قوات الأمم المتحدة ثمنًا غاليًا لاستخدامها القوة الجوية”، هكذا يقول شاشي تارور، المسؤول بمكتب الأمم المتحدة في البوسنة آنذاك.
مرة أخرى، وخلال أسابيع، قام الصرب بأسر 400 من طاقم الأمم المتحدة بعد أن أصدر الجنرال البريطاني روبرت سميث مذكرة بخروج أسلحة الصرب الثقيلة من سراييفو وإلا واجهت القصف الجوي، وهي مذكرة رد عليها الصرب بضرب الجيوب الأممية الآمنة كما يفترض في توزلا وسربرنيتشا، ليسقط الضحايا ومنهم بعض أفراد الطاقم الذين استخدمهم الصرب كدروع بشرية، دون أن يبدأ أي تحرك حقيقي، وهو ما تبعه اتفاق سري بوقف الضربات الجوية لأجل غير معلوم بين صناع القرار في تلك البلدان الغربية الثلاثة، في حين تلقى قائد الصرب ميلوسفيتش أثناء مكالمته مع كلينتون والرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الوزراء البريطاني جون ماجور رسالة غير مباشرة بأن القصف لن يبدأ الآن في محاولة لتهدئة التصعيد العسكري من ناحيته.
بالتأكد من عدم قيام القوات الغربية بالقصف، لم يهدأ ميلوسفيتش في الحقيقة، ولكن قرر زيادة ضرباته العسكرية متيقنًا من سيطرته على الأوضاع بلعبة أسر أفراد الأمم المتحدة والتي شلّت حرية القصف الجوي، كما يقول روبرت فرازور، نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية والكندية، “لم نعد نستطيع استخدام القوة الجوية لأن جنودنا ببساطة كانوا على الأرض هناك، وقد أصبح الصرب يتحكمون تمامًا في الموقف أنذاك شئنا أم أبينا”.
سربرنيتشا ضحية السياسة
سربرنيتشا بعد هجوم الصرب
في يوليو من العام 1995 بدأت قوات الصرب هجومها الأخير كما نعرف على قرية سربرنيتشا في شرق البوسنة، وبدأ القائد العسكري الهولندي توم كاريمنز على الأرض قيادة وحدة من 300 مقاتل فقط لحماية القرية، وأرسل طلبًا عاجلًا ويائسًا في الحقيقة لقادته في الناتو لتدعيمه جوًا بالطائرات، لا سيما وأنه أدرك أن مذبحة توشك على الوقوع بالنظر لكون القرية قد امتلأت عن آخرها بالنازحين المسلمين، غير أن الجنرال كيس نيكولاس الذي يعلوه في المرتبة العسكرية والمسؤول عن القوات في ساراييفو لم يرسل طلبه لموقع أعلى من ذلك نظرًا لتيقنه من عدم قيام الناتو بضربات جوية نتيجة القيود الجديدة التي وضعت على استخدامها، والتي قضت بأن الوحدة الهولندية على الأرض يجب أن تستخدم سلاحها أولًا في المواجهة لتبدأ الطائرات في حمايتها.
تباعًا، قرر ضابطان هولنديان تدبير حيلة لتوريط أنفسهم في إطلاق النار وبالتالي إجبار الناتو على إرسال طائراته لساحة المعركة، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه في المدينة، ليقوم كاريمنز بوضع عراقيل على مداخل المدينة كنوع من الاستفزاز للصرب القادمين، ومن ثم يبدأ إطلاق النار من جانب الصرب بالفعل في يوليو مع اشتباك خفيف كان كافيًا لإعادة طلب الدعم الجوي، غير أن الدعم الجوي الذي انتظره كاريمنز لم يأت رغم استيفاء الشرط المطلوب، فالقوى الغربية المتباطئة عسكريًا، والتي اتفقت سرًا على عدم استخدام القصف الجوي في تلك المرحلة، أرسلت فقط طائراتي إف 16 ظهرت بعد 18 ساعة من طلبها، وألقت قنبلة واحدة على دبابة صربية متجاهلة بقية الأهداف الصربية المهمة التي طلب كاريمنز قصفها!
كان هذا بمثابة رسالة للصرب بأن يتقدموا لسربرنيتشا دون الخوف من أي رد فعل حقيقي من الناتو، وهو ما قاموا به بالفعل ولكن مع مذبحة هي الأكبر التي شهدتها أوروبا منذ مذابح الحرب العالمية الثانية، مما دفع القوى الكبرى للقاء عاجل في لندن أطلقوا فيه مذكرة لوقف العمليات فورًا، وليقوم بطرس غالي آنذاك بإعادة سلطة الموافقة على ضربات الناتو إلى قياداته، مع تأسيس البريطانيين والفرنسيين لقوة رد سريع للمواجهة وبدعم جوي من الناتو ثقيل هذه المرة لكسر حصار ساراييفو، وهو تحوّل 180 درجة نتيجة الصدمة التي أحدثتها المذبحة، وهو ما أتى بالتوازي مع جهود أمريكية لجلب أسلحة من إيران وتركيا ودول عربية أخرى سرًا لدعم البوشناق سريعًا.
المشهد الأخير
كلينتون وأولبرايت بعد خروجهما من السلطة لاحقًا يكتبان كلمات عزاء لضحايا سربرنيتشا
أخيرًا، في يوليو، قام السفير الأمريكي لكرواتيا سرًا بوضع خطة جديدة سميت بالعاصفة لبدء ضرب الكروات للمنطقة التي احتلها الصرب من أراضيهم، في نوع من تكثيف الضغط الحاصل الآن عليهم، ومساعدة البوشناق في التخفيف من النيران على جبهتهم، وهو ما بدأ بالفعل في أغسطس بنجاح ليكسر الكروات الحصار خلال أيام، ويبدأ فرار 150 ألف صربي من المناطق الكرواتية إلى صربيا، وهو تحرك كان كافيًا لإجبار الصرب على الجلوس والتفاوض، “لقد أيقن الصرب في تلك اللحظة أنه قد حان وقت الحوار”، هكذا يقول وزير الدفاع الهولندي أنذاك فورهوف.
“كل ما تمنيته هو أن تتم تلك التهديدات واستخدام القوة العسكرية الحقيقة قبل خمسة أسابيع، وهو ما كان ليُحدث فارقًا كبيرًا بإنقاذ حياة الآللاف ممن قتلوا في سربرنيتشا.. ولكن هذا هو منطق السياسة السيء والذي ينتظر دائمًا وقوع الأسوأ ليبدأ في البحث عن الأفضل”، بهذه الكلمات يشرح فورهوف ربما إمكانية تفادي المذبحة عسكريًا، في نفس الوقت الذي يقر فيه بحتميتها سياسيًا، فالواقع العسكري كما يقول ديفيد هارلاند مسؤول الشؤون المدنية أثناء الحرب بالأمم المتحدة، هو أن الصرب كانوا ليوقفوا فورًا زحفهم على سربرنيتشا لو وافق الناتو على الطلب الهولندي بالقصف.