عقب كل حدث ارهابيّ تشهده تونس يهبّ ثلّة من المهرّجين وآخرين من المحرّضين الفاشيّين المحسوبين على النّخبة التونسية للظهور كمحلّلين وخبراء في شتّى المجالات المتعلّقة بالأمن والإرهاب في حوارات تلفزيونيّة وإذاعية اجتمعت كلّها على إرهاب الشعب التونسي أكثر من طمأنته.
لسنا نبالغ إن قلنا إنّ وسائل الإعلام التونسيّة إلّا القليل منها لا تعرف الحياد ولم تسمع في يوم من الأيّام أنّ هنالك أخلاقيّات يجب على الصحفيّ أن يحترمها وأن لا يتجاوز حدود المسموح به فلا يسبّ ولا يثلب ولا يحرّض ولا يكذب وغيرها من الثّوابت والقواعد الّتي يعرفها صغار الصّحفيّين قبل كبارهم.
أثناء التفجير الإنتحاري الأخير الّذي استهدف حافلة تقلّ أفرادا من الأمن الرئاسي في شارع محمد الخامس بالعاصمة تونس والذي راح ضحيته 12 شخصا،بدأت دعوات التّحريض من بعض الوجوه المستهلكة اعلاميّا لاستئصال كلّ المطالب والحريّات الأساسية الّتي جاءت بها الثّورة لأنّ البلاد تخوض حربا مع الإرهاب وهو ما يتطلّب منّا أن نجفّف كلّ منابعه الّتي ترعرع فيها والّتي من ضمنها المساجد ودور القران وكلّ ما يمتّ للإسلام بصلة.
نسي هؤلاء المهرّجون أنّ التاريخ لا يرحم ولن يرحمهم مهما حاولوا اخفاءه،فمن كان عبدا لسيّده بن علي لسنوات متتاليات يصعب عليه أن يخرج من بيت طاعته ولو فكريّا حتّى ولو حاول ايهامنا بأنّه كان مخطئا و”غلْطوه” مثلما “غلطو” سيّده الّذي كان عبدا له.
لن نذكر الأسماء لأنّنا لا نتشرّف أن تُذكر في هذا المنبر المحترم الّذي فتح أبوابه أمامنا لكي نكتب فيه اراءنا الّتي حاولنا قدر الإمكان أن نتجنّب فيها ذكرهم ولو بالإشارة إليهم،لأنّنا نعلم أّنّهم لا يسمنون ولا يغنون من جوع ولا يعنينا أمرهم فقد هتكت 14 يناير سترهم وفضحتهم وأخرجتهم صاغرين من بيت طاعة أسيادهم الدّيكتاتوريّين،لكن عادت العقارب ودفعتنا لكتابة بعض الأسطر لأنّ الأمر أصبح خطيرا جداّ بسبب هؤلاء المرتزقة من الإعلاميّين والمحلّلين الإستراتيجيّين والخبراء وبعض الوجوه النّقابيّة الّتي ما فتئت تشعل النّار في كلّ ظهور اعلاميّ.
في تونس بعد 14 من يناير ليس من السّهل أن تكون معارضا لهؤلاء،لأنّ مجرّد قولك كلمة الحقّ فيهم أو أمامهم سيدفع بهم إلى اتّهامك بتهم جاهزة أبرزها أنّك تبيّض وتجمّل الإرهاب ولن يقف الأمر عند هذا الحدّ بل سيشيرون لك عندما تسنح لهم الفرصة وسيشهّرون بك اذا ما ظفروا بموقف أو بتصريح رصين ومتّزن يكون وسيلة لإدانتك أمام الرّأي العامّ أثناء برامجهم التّافهة.
لم يترك لي هؤلاء المجرمون في حق شعبهم الفرصة لكي أرتاح وأتصالح مع نفسي بعض الوقت معيدا ترتيب بيتيَ الدّاخليّ ومحاولا الكتابة في الشّأن الدّوليّ كما هي عادتي،فما عشته مع عموم المسافرين عشيّة الحادثة الإرهابيّة في القطار ومع عائلتي في البيت دفعني لكتابة هذا المقال فقد تسبّب هؤلاء بحالة من الرّعب المتواصل الّفي كلّ بيت تونسيّ ربّما لم ينقطع إلى حدّ كتابة هذه السّطور.
أغلب الوجوه الإعلاميّة الّتي أثّثت البرامج الحواريّة للحديث عن الحادثة لم تكن محايدة بتاتا وما فتئت في مداخلاتها تحرّض على كلّ التّوجّهات الإسلاميّة بلا استثناء،فلم يتركوا حزب حركة النّهضة ولا حزب العدالة والتّنمية التّركي ولا حزب التحرير ولا السّلفيّين بأنواعهم إلّا وأشاروا إليهم واتّهموهم بوقوفهم وراء هذه الأحداث الدّامية الّتي شهدتها مناطق مختلفة من البلاد،بل أبدع هؤلاء الحمقى في ربط الماضي بالحاضر وتوقّع المستقبل القريب والبعيد الّذي رسموه بصورة قاتمة عنوانها المشانق والدّماء والأشلاء.
ففي احدى الإذاعات الخاصّة وصل التّطرّف إلى أن يتساءل أحد الصّحفيّين لماذا الأسواق التّونسيّة تمّ غزوها بالمنتوجات التّركيّة ثم واصل الغزف على إيقاع دعوات تحريضية استئصاليّة لكلّ ما هو اسلامي،فلا يمين ولا يسار ولا حقوقيّين ولا حدود مفتوحة مع جيراننا اللّيبيّين ولا قانون وضعيّ يحكمنا بل قانون الغاب وقانون الإرهاب الّذي يحاكم به كلّ من يبدي رأيه ويحاول أن يكسر حاجز الصّمت، حتّى أنّ بعض الحقوقيّين تحدّثوا عن اعتقال بعض الشّباب لضغطهم على زرّ اعجاب في منشور في احدى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي،بل وصل الأمر إلى التّحقيق مع شابّ تونسيّ بتهمة الحديث على موقع “Facebook ” مع محامية معروفة بدفاعها عن قضايا المعتقلين السلفيّين في تونس ثمّ أطلق سراحه بعد ساعات.
هؤلاء المحلّلين والخبراء والإعلاميّين كانوا يندّدون منذ سنوات بتواصل الحكم بالإعدام في تونس رغم عدم تنفيذه بل طالبوا بحذفه من القانون لأنّه من العار على دولة تريد تطبيق الدّيمقراطيّة أن تحكم بالإعدام على مواطنيها في أيّة قضيّة كانت حسب قولهم،أمّا الان فقد خلع هؤلاء جلباب الدّفاع عن حقوق الإنسان وقالوا إنّ الحلّ يكمن في الحكم بالإعدام وتطبيقه على كلّ المدانين والمشتبه فيهم في قضايا ذات صبغة ارهابيّة.
لقد أشعلت وسائل الإعلام المحليّة النّار التّي أحرقت قلوبنا جميعا بسبب كذبهم ودجلهم ودعواتهم التّحريضيّة،فلا تخلو ساعة من خبر عاجل كاذب نقله سفيه عن سفيه ليتم بثّه إلى عموم الشّعب التّونسي فيتأكّد المتابع بعد دقائق أنّ الخبر كاذب ولا أساس له من الصّحّة وإليكم بعض الأمثلة:
*عنونت صحيفة تونسيّة يوميّة كبيرة على صفحتها الأولي بالبند العريض ما نصّه حرفيّا”..تنشر أسرار الجثّة 13 في حافلة الموت،الإنتحاري عون حرس متطرّف عزل سابقا وأعيد انتدابه ومدير الأمن السّابق كشفه”.
لكن وبعد سويعات من نشر الخبر فنّدت الجهات الرّسميّة هذه الرّواية حيث نسفت وزارة الدّاخليّة هذا المقال الهوليودي عن طريق بلاغ للرّأي العامّ وفيه أنّ الجثّة 13 تعود لمنفّذ العمليّة الّذي لم يكن عون أمن سابق بل كان عاملا يوميّا وتحديدا “بائع متجوّل” فكان حقّ على هذه الصّحيفة أن تعنون في عددها اللّاحق ما نصّه “انْجَلى الغبارُ وليس فرس تحتي بل هو حمار”.
*موقع اخباري اخر نشر في مقال له صورة لأحد رموز السلفيّة الجهاديّة في تونس وهو الدّكتور عماد بن صالح والمكنّى بأبي عبد اللّه التّونسي والّذي غادر البلاد منذ أكثر من سنة عائدا إلى فرنسا الّتي كان يقيم فيها،على أساس أنّ هذه الصّورة تعود للإنتحاري الّذي ظهر في بيان تبنّي تنظيم الدّولة الإسلاميّة للعمليّة والّذي يكنى أيضا ب”أبي عبد الله التّونسي”،لكن وبعد ساعات نزل بيان موقع من الدكتور بن صالح ومرفقا برقم بطاقة التعريف الوطنية يؤكّد فيها أنّه حيّ يرزق ولا علاقة له بتنظيم الدولة وأن الخبر المنشور في هذا الموقع تسبّب في ترويع والده وعائلته.
استقصاء الجرائم الأخلاقية واللّامهنيّة في وسائل الإعلام التّونسيّة بأنواعها تدفعنا إلى مصارحة أنفسنا والقرّاء الأعزّاء بأنّ المشهد الإعلامي في تونس تسيطر عليه قوى المال والمافيا بامتياز،فقد أضحت أغلب وسائل الإعلام تحت سيطرة من لا يرقبون في شعبهم إلّا ولا ذمّة ولا يخافون في صحافيّيهم ربّا ولا قانونا،بل ما فتؤوا يدفعون بهم إلى المواجهة مع عدد كبير من مؤسّسات الدّولة عن طريق بثّ الأخبار المزيّفة واختلاق المصادر والإكتفاء بمصدر وحيد في تحقيقاتهم لعدد كبير من القضايا الشّائكة حتّى أنّ بعض المواقع الإلكترونية والصّحف الورقية أصبحت ناطقة باسم وزارة الدّاخليّة وذلك عبر نشرها لعديد الأخبار المغلوطة والملفّات المتعلّقة بالقضايا الإرهابيّة قبل ختم الأبحاث وانتهاء التّحقيقات فيها.
أحد المواقع الإلكترونيّة الإخبارية المعروف بانفراداته في القضايا الإرهابيّة نشر منذ أيّام خبرا كاذبا فتمّ الإتّصال به من قبل أحد العاملين معه ليؤكّد له أنّ الخبر لا يمتّ للواقع بصلة ذاكرا له الرّواية الصّائبة لكنّه رفض اصلاح الخطأ المقصود كما كان رفض قبل أيّام أن يشير إلى أنّ قوّات الأمن اعتدت على الصّحفيّين أثناء تغطيتهم لحادثة التّفجير في شارع محمّد الخامس بالعاصمة تونس.
إنّ عددا كبيرا من وسائل الإعلام التّونسيّة ساهمت في تغذية الإرهاب بإرهابها الفكري ولم تستطع بعد أكثر من 4 سنوات من “الثّورة” أن تكسب مصداقيّة لدى الشّارع المحلّي والعربي والعالميّ لأنّها امتهنت الكذب واحترفته واتّخذت من اللاّمهنيّة شعارا مرفوعا دفع الشّعب التّونسيّ ليطلق عليها وصف “إعلام العارْ”.
إنّ طرق باب أغلب وسائل الإعلام في تونس كما في العالم العربي يتطلّب منك صكّ ولاء لتوجّه أو أيديولوجيا معيّنة والبراءة من كلّ ما يمتّ للحقيقة والمهنيّة بصلة لكي يتمّ ادماجك معهم والرّضى عنك،فبقدر ما تحترف الإجرام وتزيد من الكذب والتّلبيس والخنوع والخضوع بقدر ما تفتح أمامك أبواب الخير وتتيسّر أمامك سبل الحصول على المعلومة بل ستتسابق المصادر المختلفة نحوك لتزويدك بالإنفرادات والحصريّات الّتي غالبا لا تمتّ للواقع بصلة.
إنّنا نسمع يوميّا المزيد من أسرار وسائل الإعلام التّونسيّة الّتي شوّهت السّلطة الرّابعة وانتهكت سترها و”على نفسها جنت برّاقش”،فقد ألحقت هذه الوسائل الإعلاميّة الضّرر بشعبها وبالعاملين فيها،فلا مصداقيّة ولا نزاهة عند غالبيّة الشّعب لما تبثّه وحتّى وإن صدّق فعن مضض وعن ضغط ودمغجة خاصّة فيما يتعلّق بملفّات الإرهاب.
في تونس بعد 14 يناير يصبح بوق الحزب الحاكم الّذي نعت المتظاهرين بأبشع النّعوت قبل سقوط بن علي خطيبا مفوّها واعلاميّا محنّكا يصول ويجول ويتكلّم فيُسمع.
في تونس بعد 14 يناير يصبح أستاذ الاداب عالما في العلوم السّياسيّة وخبيرا في الجماعات الإسلاميّة بأنواعها.
في تونس بعد 14 يناير أصبحت النّقابات الأمنيّة تتحدّى الحكومة ووزارة الدّاخليّة متّهمة ايّاهما بالتّخاذل وتوظيف والإرهابيّين في مناصب حسّاسة،بل ذهبوا بعيدا باتّهام القضاء بتساهله في ملفّات الإرهاب لأنّ بعض القضاة دواعش.
في تونس بعد 14 يناير تتعرّض عمليّات استطلاع الاراء لأكبر مغالطة وتزييف ونسف للقواعد العلميّة المعمول بها في كلّ الدّول الدّيمقراطيّة من قبل أحد أصحاب شركات سبر الاراء الّذي يقوم باستطلاع اراء النّاس من خلال صفحته الشّخصيّة على موقع التّواصل الإجتماعي “فايسبوك” ثمّ يطلع بدر البدور علينا في وسائل الإعلام بأنواعها ناشرا نتائج مفادها أنّ أكثر من 70 في المائة من الشّعب التّونسيّ يطالب بالأمن مقابل الحريّة.
مفارقات كثيرة في تونس بعد 14 من يناير،فقد ظهر عدد كبير من الرويبضات الّتي تتحدّث في أمر العامّة كما أطلّ علينا خبراء بالعشرات في الميدان الأمنيّ والعسكريّ والإرهابيّ والإسلاميّ وقد أتى هؤلاء بالعجب العجاب في تحليلاتهم وقراءاتهم النّقديّة لكلّ حدث جديد على السّاحة.
ربّما يكون لنا موعد اخر إن كتب لنا البقاء أحرارا،وسنكشف للقارئ الكريم عديد الحقائق الأخرى الخافية عليه عن السّاحة التّونسيّة ولن نبخل على أحبّائنا من متابعينا لأنّنا وعدنا أنفسنا بأن نسخّرها في الدّفاع عن الحقّ البائن الّذي لا جدال فيه وأن نساند كل قائل للحقّ مهما كان وأينما كان وعلى رأسهم الصّحفيون الأحرار.