لم يكن غريبًا على بعض الوجوه التي اشتهرت بحنينها للنظام السابق في تونس والتي طالما عادت الثورة، أن تظهر بعد كل عملية إرهابية لتقايض الشعب التونسي بين أمنه وحريته وأن ترسل عبر المنابر الإعلامية رسائل شعبوية تعتمد على استثارة عواطف الجماهير طالما كررتها بأن الأمن نقيض الحرية وأن لا أمن للتونسيين بوجود الحرية وذلك بالاعتماد على حجج وبراهين كاذبة وصولاً إلى عمليات سبر أراء نتائجها مضحكة أكثر من السؤال الذي تطرحه.
كثر هم الذين يطلقون هذه الدعوات الخبيثة وأولهم سياسيين يعشقون استعباد الشعوب وثانيهم إعلاميين ومحللين سياسيين يدركون أن لا مكان لهم في الساحة إن لم يكونوا عبيدًا لشخص أو نظام معين، وثالثهم نقابات أمنية مشبوهة لم يتجاوز تكوينها منطق القمع والعنف، ووسط كل هؤلاء بعض الأطراف الجبانة التي ترى أن الثورة كانت وبالاً على الشعب وأن الأمن سيأتي بمجرد قمع الحريات ولا تلبث كل عملية تصدم هذا الشعب أن تنتهي حتى يظهر لنا رويبضة هذا الزمان مهرولين بتحاليل تزيد في تعميق الأزمة التي تمر بها تونس وفي رفع نسبة الإحباط وفقدان الثقة لدى التونسيين، محاولين في كل ظهور تلفزي إقناع المتلقي بأن الحرية هي أصل الداء ومطالبين هذا الشعب بالتخلي عن حريته للعيش آمنًا ومذكرين إياه بأيام العز المزيفة وقت الرئيس المخلوع عندما كان مستعبدًا لكنه لا يعاني الإرهاب.
بالطبع سنكون مخطئين لو وجهنا رسالة إلى هؤلاء العبيد أو طالبناهم بالتوقف عن نشر هذه السموم فهم منها يسترزقون، ولكن الكلام موجه للشعب الذي ضحى بمئات الشهداء في الثورة وبعدها من أجل أهداف عديدة كان أولها الحرية التي تعتبر المقياس الأول لتطور كل دولة والشرط الأساسي للعيش الكريم، فعن طريق حرية التعبير وباقي الحريات يستطيع أي شعب أن يشارك في الحكم وأن يبلغ مشاكله وأن يكتشف الجميع الحقيقة التي تعودت السلط السياسية إخفائها.
لن ينسى التونسيون الشعارات التي خرجوا من أجلها في ديسمبر من سنة 2010 وكان أولها الحرية التي كانت مطلبًا ملحًا لهم فاق في أهميته العديد من المطالب الأخرى، يومها لم يطلب أحد من المتظاهرين توفير الأمن الذي كان غائبًا بفعل سياسة خبيثة من أجل إثناء المحتجين عن مواصلة ثورتهم، لكنهم واصلوا رفع الشعارات المنادية بإسقاط النظام رغم الإرهاب الذي مارسه أعوان النظام المخلوع، فالجميع يعلم أن أنجع سياسة لمحاربة الثورة وترهيب الشعوب الثائرة هي غياب الأمن والاعتماد على الميليشيات المأجورة لفرض منطق الغابة حتى يصبح الفرد منا يطالب بالأمن قبل الحرية وقبل الخبز، بالإضافة إلى توظيف الإرهاب لإقناعنا بأن المجموعات الإرهابية تستغل الحرية التي منحتها لنا الثورة لتنفيذ مخططها لذلك وجب علينا حسب هذه التحاليل المخادعة أن نحد من حريتنا في انتظار أن نتخلى عنها نهائيًا.
يجب علينا جميعًا اليوم أن نعي أن كل هذه الدعوات للحد من الحريات التي افتكها الشعب بعد الثورة تهدف إلى جعله يتخلى عنها نهائيًا في المستقبل لتعاد عقارب الساعة إلى الوراء ونعود إلى عهد الاستبداد والنظام الواحد والرئيس الإله، يجب أن يعرف الجميع أن في تخليهم عن حريتهم تخلي عن كل حقوقهم الأخرى وأنهم لن ينعموا بأي من مطالبهم في غياب الحرية، فمن يتخلى عن الحرية لن يجد الأمن، بل أن ذلك سيخلق جيلاً آخر يكبر على النقمة ضد الاستبداد سيصل حد التطرف ومحاربة الدولة التي افتكت حريته وذلك نتيجة منطقية لسياسة استعباد الشعوب، فمن لم يتعلم الدرس سابقًا من آلاف المتطرفين الذين صنعهم النظام السابق بقمعه للحريات الدينية والفكرية لن يكون قادرًا على فهم مغزى حديثنا اليوم.
من الممكن أن تستغل الأطراف الدنيئة العمليات الإرهابية من أجل محاولة السيطرة على عقول المواطنين ونشر مخططات الرعب في أذهانهم لكن الأكيد أن هذا الشعب مهما اهتزت ثقته في نفسه وفي ثورته لن يقبل مرة أخرى بعودة دولة اللاحرية رغم كل ما سيقدمه من تضحيات من أجل دولة توفر لمواطنيها الحرية والأمن والعدالة والكرامة، وذلك جوهر الصراع الذي يخوضه التونسيون منذ سنوات والذي قدم من أجله هذا الشعب مئات الشهداء، لذلك ستكون المحاولات الهادفة لإرجاعنا لدولة ما قبل الثورة فاشلة مهما تكالبت علينا الدول الاستعمارية وأياديها الداخلية المتواطئة وكذلك المجموعات الإرهابية.
وما يجب أن يعلمه أعداء الحرية وأعداؤنا أن هذا الشعب مستعد أن يقدم المزيد من الشهداء من أجل بناء وطنه فحيث تكون الحرية يكون الوطن، ولا بديل اليوم عن وطن يتمتع شعبه بكل الحريات كاملة دون نقصان، فالأمن ابن الحرية وبدونها لن نضمن لا الأمن ولا الكرامة والعدالة، فالحرية خير يمكننا من التمتع بسائر الخيرات.