في دراستها حول “المحلي والعالمي في الخطاب السلفي – الجهادي السعودي” تنبهنا الأنثروبولوجية السعودية مضاوي الرشيد إلى نقطة مهمة، تتعلق بالرسائل العالمية والممارسات المتشابهة التي تصدر من قِبل السلفيين الجهاديين، الذين يظهرون على الإنترنت ووسائل الإعلام، التي جعلت من الأبعاد المحلية للإرهاب أبعادًا غامضة، لأن هذا التشابه قادنا إلى الاعتقاد بأننا نرى الشيء ذاته، أي هجومًا سلفيًا جهاديًا عالميًا موحدًا على العالم المتمدن، مغفلين بذلك السياقات المحددة التي يعمل بها الجهاديون.
ورغم أن الرشيد لا تنفي أن الرسائل العالمية قد تكون مهمة لفهم وشرح الظاهرة، بيد أنها ترى أن البحث في عوالم الجهاديين توحي لنا بأن التجنيد أكثر تعقيدًا بالفعل، لأنه مؤسس في الخبرات الحقيقية، وفي الشبكات والصداقات، ودوائر الأسرة والقرابة، لا في فضاءات افتراضية ومتخيلة، وانطلاقا من هذه الملاحظات المهمة التي ذكرتها مضاوي، فإننا سنروم من خلال هذه المقالة دراسة المحلي والعالمي في تفجيرات باريس الأخيرة، وما أثارته من ردات فعل سريعة، سواء على الصعيد الرسمي الفرنسي، أو حتى على صعيد الكتابات الصحافية الغربية وحتى العربية، التي سارع بعضها إلى قراءة ما جرى من خلال سردية الجهادية العالمية، القائمة على ربط ما جرى بشبكة إرهابية أخطبوطية هائلة القوى (القاعدة في السابق، وداعش اليوم) تسعى إلى تهديد وفناء الحداثة الغربية، عبر خطاب وسلوك معاد للعقلانية والمرح، وهو الأمر الذي بدا في باريس من خلال مهاجمة مسرح باتاكلان الذي كان يحيي حفلاً لرواد موسيقى الروك، التي باتت بمثابة شيفرة ثقافية تعكس حالة التنوع والتعايش الخلاق بين الأمزجة والأعراق والأديان والفنون، أو عبر الهجوم على مجموعة من المطاعم منها مطعم (لاكازا نوسترا) الذي يقدم وجبة البيتزا التي باتت بمثابة وجبة عابرة للجنسيات والثقافات، ومبعث غبطة عند الجهاديين المعادين لهذه الثقافة والتنوع، كما ذهب إلى ذلك معن بياري في مقالته في “العربي الجديد” بعد يوم واحد من الهجمات (جريمة ضد موسيقى الروك والبهجة)، مع أن الرشيد في دراستها التي ذكرناها تشكك بهذه الفرضية الأخيرة، انطلاقًا من أن الجيل الجديد من الجهاديين يشبه إلى حد كبير مصرفي الدولة الناجح (نموذج الرجل المعولم) الذي لا يكون عابرًا للقوميات فحسب، بل وعواصميًا أيضًا، مغروزًا في أماكن متعددة مع تقدير للمطابخ المحلية وللنساء ولكل ما هو محلي ومتنوع، وهو الأمر الذي ينطبق على الجهاديين الذين ينشدون الزوجات من خارج محطيهم الاجتماعي، ويتبنون الملابس وأذواق الطهي لمضيفيهم المؤقتين.
على كل، ليس هدفنا في هذا المقام هو مناقشة مدى عولمة ظاهرة الجهاديين من عدمها، بمقدار ما هو رغبة في إثارة للتساؤلات حيال هذا النوع من التحليلات، التي أنتجت من خلال تركيزها على البعد العالمي للحدث (ربط ما جرى بداعش) كليشيهات تقليدية لما حدث، قائمة على ثنائية عقلانية الرجل الفرنسي/ مقابل جنون الجهادي، أو بين عالم فولتير/ وبربرية الشرق الأوسط الإسلامي، متجاهلة بذلك دور السياق المحلي الذي يعيش بداخله هذا “الجهادي الفرانكفوني” رغم استخدامه لبلاغة الجهاد العالمي، وأعني هنا بالمحلي، تلك المؤثرات والدوافع التي دفعت بمجموعة من الشباب الغاضبين المولودين في فرنسا إلى القيام بعمليات انتحارية، وإن كان هذا الفعل يعبر عن حالة من التعطش مثلاً لممارسة الجنس مع العذارى في السماء؟ أم أنه جهاد من أجل العدالة والمجد، كما يظن هؤلاء الجهاديون؟ خاصة في ظل فضاءات التهميش والانعزال التي يعيشونها، وماذا عن هذه المجموعات؟ هل هي جزء من تنظيم مركزي عالمي؟ أم أن هناك شبكات محلية بدائية بالمعنى الأنثروبولوجي (الصداقات، القرابات) هي التي أخذت تجند هؤلاء الشباب للدخول إلى عالم البطولة المقدس؟ وهل تمثل موجة جديدة من العمليات الانتحارية داخل أوروبا؟ أم أنها استمرار لمرحلة الحادي عشر من سبتمبر وما بعدها؟
ولعل هذه الأسئلة هي ما نحتاج إلى أجوبة عنها اليوم بدل هذه القراءات الثقافوية الباردة، الأمر الذي سنحاول تبيان جزء صغير منه عبر استدعاء بعض الأنثروبولوجيين لإلقاء نظرة على مسرح الأحداث في باريس، خاصة أن بعضهم في السنوات الماضية عمل في البحث عن ماهية “جنود الله” في عالمنا الحديث، وأشير هنا بالتحديد إلى جهود أوليفي روي أستاذ الأنثروبولوجيا السياسية الخبير في الحركات الإسلامية والأصوليات وصاحب كتاب “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة”، والأنثروبولوجي الأمريكي سكوت أتران مدير الأبحاث الأنثروبولوجية في المركز الوطني في باريس، ومؤلف كتاب “الحديث إلى العدو، الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم” المترجم حديثًا للعربية، الذي باعتقادي يبقى الأهم في رصد الديناميات والشبكات المحلية الجديدة للجهاديين اليوم، أما الاعتماد الثالث فسيكون على بعض ما أشار إليه الأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الإشكالي “ما هي شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية”.
القرابة وكرة القدم والشبكات الجهادية الجديدة
قبل أيام من الأحداث الدامية التي شهدتها ليالي باريس، نشرت وكالة الأنباء الفرنسية تقريرًا عن الجهاز المركزي للاستخبارات الفرنسية بعنوان “انغلاق المجتمعات في الأحياء الشعبية”، التقرير الذي ذكرت الوكالة بعض تفاصيله، يتحدث عن رصد تجاوزات ومظاهر تشدد إسلامي في عدد من النوادي الرياضية لكرة القدم داخل بعض الضواحي الفرنسية، كما يشير إلى ملاحظة تتعلق ببسط سجادات صلاة من أجل أدائها في فترة الاستراحة ما بين الشوطين، أثناء مباريات لكرة القدم، هذه الصورة التي رسمها التقرير بين السلفيين وملاعب كرة القدم في فرنسا، أعادت إلى أذهاننا ما أشار إليه ويليام ماكنتس في دراسته “المؤمن” التي تناولت حياة أبي بكر البغدادي (زعيم ما يسمى بدولة الشام والعراق الإسلامية)، حيث يذكر ماكنتس كيف أن مسجد الحاج زيدان في حي الطوبجي المتواضع في بغداد، هو المكان الذي أتاح للبغدادي أن ينغمس بممارسة هوايته المفضلة وهي لعبة كرة القدم، فقد كان في المسجد ناد لكرة القدم، وكان البغدادي هو نجمه “ميسي الفريق” (في إشارة إلى اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي)، وأثناء اعتقاله في معسكر بوكر في جنوب العراق، أدهش البغدادي رفاقه وسجانيه في ملعب كرة القدم، حيث جرت مقارنته بمارادونا، بيد أن الأهم في هذا الوصف هو ما يذكره ماكنتس نقلاً عن أحد السجناء الذي روى له كيف استطاع البغدادي عبر الصداقات التي تشكلت من كرة القدم ويوميات السجن أن يحول معتقل بوكر إلى مركز لاستقطاب المقاتلين.
هذه العلاقة بين الجهاديين وكرة القدم، هى ما أثارت الحيرة لدى الباحث الأنثروبولوجي سكوت أتران، الأمر الذي دفعه إلى القيام بإجراء مقابلات ميدانية في ساحات ملاعب كرة القدم والشوارع التي مارس فيها عدد من المحاربين المقدسين (إندونيسيا، إسبانيا، فلسطين، المغرب) هوايتهم لكرة القدم، قبل أن يلتحقوا لاحقًا بمجموعات جهادية، ليتوصل من خلال هذه الجولات الميدانية في ساحات كرة القدم إلى نتيجة مفادها أن الجهاد اليوم يحارب باعتماده أكثر أشكال التعاون الإنساني بدائية وأولية مثل القرابة العشائرية، والصداقة اللتين باتتا تلتقيان اليوم من أجل قضية هي من أكثر أشكال التعاون الثقافي الذي أنشأ تطورًا ورقيًا: الخلاص الأخلاقي للإنسانية.
وبناء على هذه الملاحظة، رأي أتران يرى بأن الصداقات وعلاقات القرابة هي ما بات يحرك الجهاد اليوم، فمثلاً نجد في موضوع الصداقات، أنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر بدأنا نشهد موجة جديدة من الجهاديين الذين يكونون عادة في مجموعات صغيرة من الأصدقاء تعهد إليهم بالمهام العملية، وفي أغلب الأوقات ينتمي هؤلاء إلى المنطقة السكنية نفسها ويختلط بعضهم ببعض في الأنشطة الرياضية، كما أن معظم هؤلاء الشباب لم تصبح ميولهم إرهابية عند ارتيادهم المساجد، فهم قلما اجتمعوا وخططوا داخلها، كما في حالة أفراد خلية هامبورغ (الحادي عشر من سبتمبر) ومفجري القطارات في مدريد، الذين قاموا بالتخطيط لعملياتهم، كما بينت التحقيقات، إما أثناء ممارستهم لكرة القدم، أو خلال فترة التخييم أو عند القيام برحلات طويلة معًا سيرًا على الأقدام، التي ساعدتهم على توطيد روابط الصداقة بينهم.
من ناحية أخرى يرى أتران أنه في فترة انتشار تنظيم القاعدة، كان الناس هم من يسعون إلى خطب ودها، فالقاعدة في أوج ازدهارها كانت عبارة عن وكالة تمويل أكثر منها منظمة عسكرية، فقد كان يأتي إليها الناس بمشاريع تقبل هي من 10 إلى 20 بالمئة منها، كما أن معظم الشباب الذين التحقوا بالقاعدة كانوا متطرفين قبل الذهاب للانضمام إليها، واستنادًا إلى لجنة التحري في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نجد أنه على الرغم من أن بن لادن وخالد الشيخ فكرا في البداية في استخدام عناصر القاعدة المنتمين لها مسبقًا لتنفيذ عمليات الطائرات، غير أن قدوم أربعة جهاديين حماسيين إلى قندهار من ألمانيا مثل خيارًا أكثر جاذبية… الإيجابية الكبيرة لإتقان اللغة الإنجليزية ومعرفتهم بالحياة في الغرب.
أما بخصوص علاقات القرابة، فإن ما يلحظه أتران في هذا الشأن، هو أن الجهاديين غالبًا ما باتوا يعتمدون على العائلة والزواج لاستكمال مجموعاتهم المقدس، وهو تطور مهم، لأنهم عندما استطاعوا تشكيل مجموعاتهم بناء على علاقات القرابة والزواج، أصبحوا مقيدين بشكل متصاعد بثقة يصعب على مجهودات مكافحة الإرهاب أن تخترقها أو تكسرها، وهو الملاحظ في بعض التفجيرات، مثل تفجير بالي 2002 الذي أودى بحياة 202 سائح غربي، وتفجيرات فندق ماريوت في جاكرتا(2009 التي أدت أيضًا إلى مقتل عدد من السياح؛ ففي التفجير الأول ثلاثة من المشاركين كانوا إخوة، وفي التفجير الثاني أربعة من العناصر الرئيسية كانوا من عائلة واحدة، وهذا ما لوحظ أيضًا في تفجيرات مدريد، التي سرعان ما ربطت بالقاعدة، مع أنه تبين لاحقًا عدم وجود أي شيء في الديناميكيات الداخلية للتفجيرات قد جرت بتدخل قائد أو عنصر خارجي، فقد بدأت حضانة هذه الخلية سنة 2002، عندما أقدم شاب تونسي من عائلة ميسورة يدعى سرحان فاخت (التونسي) على قضاء وقت أطول في مسجد م 30 في مدريد، وممارسة كرة القدم قرب المسجد، وهناك تعرف على عامر عزيزي، وهو طالب كان يزاول دروس إمام منبر للقرآن، لكنه سرعان ما اصطدم بالإمام من خلال اتهامه بأنه مدع للإسلام، ليندفع خارج المسجد في صحبة بعض الأتباع كان التونسي بينهم.
وفي العام نفسه تزوج الشاب التونسي من أخت صديق آخر من المجموعة نفسها (مصطفى ميموني) وبعدها بقليل، ظهر التونسي بفضل حماسته زعيمًا للمجموعة، وأخذ يطالب أفراد المجموعة بالقيام بعمليات جهادية لتحقيق العدالة العنيفة تجاه العمليات البربرية لأعداء الإسلام، بيد أنه ورغم هذه الحماسة لم تتوفر للمجموعة الوسائل والتدابير، لحين تقاطع سبلها قبيل ستة أشهر من التفجيرات بشاب مغربي يدعى جمال حميدان والملقب “بالصيني”، الذي كان يعمل في تجارة المخدرات، حيث استطاع أن يؤمن له عبر عملاء في قسم الأمن 200 جرام من الديناميت مقابل 35 كيلوجرامًا من الحشيش، وبناء على ما ذكره أتران، فإننا يمكن أن نصيغ شكلاً هرميًا للعمل الجهادي اليوم قائمًا على ثلاثة عناصر: الأول هو عنصر القرابة، والثاني هو عنصر الصداقة (كرة القدم مثلاً)، أما العنصر الثالث فهو ما دعاه أوليفي روي بظاهرة “المتحولين الجدد” التي أخذت تفرضها العولمة على الأديان، منتجة بذلك سوقًا دينية جديدة ومؤمنين جددًا يرفضون النظر للدين كنظام رمزي ثقافي بين أنظمة أخرى، فالأمر عندهم يقوم على البعد الطهراني، أو كما دعاه روي بـ “انفصال الديني عن الثقافي”، وغالبًا ما يمر هؤلاء المتحولون (الصغار في السن) بتقلبات تدفعهم إلى القفز فوق الواقع، من خلال بناء متخيل راديكالي ناقم يبحث عن معركة ضد الظلم، فيكون هذا التحول مرحلة سابقة للالتحاق والهجرة إلى عالم البطولات المقدسة (أفغانستان والعراق وسوريا اليوم).
وبناء على هذه العناصر السابقة يغدو نمو الشبكات الجهادية – بحسب أتران – بمثابة عملية تطورية غير مركزية ترتكز على التأقلم العرضي مع تغير الأحداث والفرص، أكثر منها نتيجة لتخطيط مسبق حكيم (تعتمد على المراقبة وعلى قيادة تراتبية)، وتجاهل التغيرات والسياق يعني عدم إدراك طبيعة تشكل المجموعة وتطورها، كما يعني أيضًا تفويت فرص التدخل والوقاية من هجمات العدو بالاعتماد على أسلوب تصاعدي يتدرج من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، عوضا عن مقاربة تنازلية من أعلى إلى أدنى.
أحداث باريس الأخيرة في ضوء القراءة السابقة:
حسب شهادة بعض الناجين من المجرزة في مسرح باتاكلان، فإن المهاجمين كانوا حديثي السن، كما أنهم كانوا يتحدثون الفرنسية بطلاقة، ووفقًا لوسائل الإعلام، فقد أقدمت القوات الفرنسية على تنفيذ أكثر من 150 عملية دهم لمواقع للإسلاميين وضبطت في هذه المداهمات بنادق من بينها قاذفة صواريخ وسترات واقية من الرصاص ومسدسات وبنادق كلاشينكوف، كما أفادت المعلومات بأن من بين المهاجمين عمر إسماعيل مصطفاوي يبلغ من العمر 29 سنة، وسامي عميمور 28 عامًا من باريس، شارك بالهجوم أيضًا إبراهيم عبد السلام 31 سنة وأخوه صلاح عبد السلام.
وفي حال اعتمدنا على مصفوفة أتران السابقة (الصداقة/ القرابة/ المتحولون الجدد) نجد أن عامل القرابة بدا واضحًا في حالة الأخوين عبد السلام، إضافة لذلك تظهر لنا بعض المعلومات التي نشرت في وقت سابق لهذه العمليات أن مصطفاوي مثلاً (أحد مهاجمي مسرح باتاكلان) هو مغني راب سابق، وقد أبدى ميولاً متشددة منذ 2010، كما أنه أقام في سوريا بين 2013 إلى 2014، وكذلك الحال بالنسبة لعميمور الذي ذهب إلى سوريا عام 2013، ولكن المعلومة الأهم المتعلقة بهذا الشاب، كما نشرتها “اللوموند” تشير إلى محاولات سابقة له للالتحاق باليمن سنة 2012، وهو ما يثير ملاحظتين حيال الانتحاريين السابقين: الأولى هي أن كلا المهاجمين قد قام بالانتقال إلى سوريا عام 2013، أي في العام نفسه الذي أعلن فيه أبو بكر البغدادي ولادة ما سمي بـ “دولة الشام والعراق الإسلامية” وبدء انتشارها الواسع في سوريا، أما الملاحظة الثانية فهي تتعلق بالإشارت العديدة التي نقلتها بعض التقارير حول حالة “التحول الديني” التي مر بها المهاجمان قبل سنوات من وجود داعش وبدء انتشار التنظيم بشكل ملحوظ، وهو ما يعني أن حالة التحول الديني التي مر بها الشابان هي حالة سابقة لظهور داعش، وأن رغبة الثاني في الذهاب لليمن التي بقي فيها وجود للقاعدة مقارنة بباقي المناطق، إنما يشير إلى تطلع للعثور على جماعة تلبي طموحاته المقدسة، وربما تتعهد بعض العمليات في المستقبل، أكثر ما تعبر عن ارتباط منشأه هذا التنظيم، وهو أمر نلحظه اليوم ليس في أوروبا فحسب، وإنما في ليبيا وسيناء، من خلال نقل الجماعات والمجموعات مشاريعها وتحالفاتها من متعهد إلى آخر (من دور القاعدة المتلاشي إلى الصعود السريع لداعش).
ثم تبقى الملحوظة الأساسية وهي أن معظم المشاركين الذين جرى التعريف بأسمائهم في هذه العملية هم فرنسيون من أصول مغاربية، ولعل في ربط هذه الملاحظات الأولية بملاحظات أتران السابقة، ما يعزز من فرضية أن من قام بالعمليات الانتحارية في تلك الليلة هي جماعات محلية تشكلت عبر علاقات الصداقة والقرابة ولا تمت بأي صلة مادية بداعش (رغم إعلان الأخيرة عن تبنيها لهذا الأمر)، فحجم الأسلحة التي ظهرت في الساحة لا تحتاج إلى متعهد رسمي كبير، وأما عن قبول أولاند السريع بسيناريو استهداف العقول المدبرة في سوريا والجهات المنفذة لها في فرنسا، كما صرح، فإن ذلك قد لا يعكس البعد الحقيقي بمقدار ما يشير إلى مناورة سياسية قام بها خوفًا من تكرار سيناريو أزنار في إسبانيا في المستقبل القريب، أو ربما لأن قبول سيناريو “الديناميات المحلية” بدل التركيز على العامل الخارجي، هو بمثابة إحراج وفشل لسياسات أولاند ومن سبقه في حل الأزمة التي يعانيها الوسط الاجتماعي المسلم في أوروبا، والتي لم تعد تعبر عن أزمة جماعات اجتماعية مهمشة أو أزمة اقتصادية فحسب، بل ربما باتت تعبر عن أزمة دينية أيضًا، كما لمح إلى ذلك إيمانويل تود حول أحداث شارلي، التي كشفت إلى السطح الرؤية التي كانت تتشكل في مخيال الطبقة الوسطى والعليا في فرنسا خلال السنوات السابقة، وهو مخيال أخذ يخشى على مستقبل العلمانية الصلبة في فرنسا، لذلك بات يندفع إلى البحث عن خصم محدد في الإسلام الموجود في الضواحي، ليحل محل كاثوليكيتها التي لم تعد قابلة للاستعمال، لتحميله الأزمات التي تعصف بهذا المجتمع، ربما لذلك أخذت تزداد قناعات الشباب المسلم الغاضب في فرنسا للنظر إلى الجهاد باعتباره الخيار الأمثل لاكتساب الاحترام والعدالة، وهو ما بدا في أحداث باريس الأخيرة، وقد يكشف عن نفسه في مناسبات أخرى إذا بقي أولاند يسير على خطى بوش الابن.
المصدر: القدس العربي