في أسبوع واحد شهدت مصر جدلًا واسعًا بعد مصرع 3 مواطنين نتيجة التعذيب داخل 3 مراكز مختلفة للشرطة المصرية، حيث اتهمت أسرة المواطن الأول عمرو أبوشنب، ضحية التعذيب، ضباط قسم شبين القناطر بمحافظة القليوبية بتعذيبه حتى الموت، بعد ساعات من القبض عليه واحتجازه في واقعة سرقة لم تثبت عليه.
تلا ذلك واقعة مصرع المواطن طلعت شبيب داخل مركز شرطة بمدينة الأقصر، ولم تمر هذه الحادثة، التي أحدثت الضجة الأكبر، حتى تداول المصريون خبرًا عن مقتل مواطن ثالث على يد قوات الشرطة داخل قسم شرطة بمحافظة الإسماعيلية.
هذه الأخبار لا يمكن اعتبارها بالجديدة أو إطلاق وصف الفردية عليها، إذ إن سجل الشرطة المصرية حافل بمثل هذه الوقائع على مر العصور، لا سيما في عصر المخلوع مبارك وما تلاه من تغييرات سياسية لم تنجح في وقف هذه الممارسات الممنهجة، التي تعتبرها الشرطة في مصر جزءًا من وظيفتها، وإن خفت حدتها بعض الشيء.
إلى أن عادت هذه الممارسات لتتوحش أمام أعين الجميع بعد انقلاب الثالث من يوليو، في ظل مناخ سياسي مرحب بالقمع، وسلطة أعطت أدواتها الخط الأخضر للمضي قُدمًا في ملء سجلات التعذيب بأسماء ضحايا جدد.
يظهر ذلك في توثيقات المنظمات الحقوقية المختلفة التي تراقب الحالة المصرية عن كثب، والتي وثقت أكثر من 350 حالة وفاة من ضحايا التعذيب داخل أقسام ومراكز احتجاز الشرطة المصرية، على خلفية انتمائهم السياسي، عقب أحداث الـ3 من يوليو، مع تعتيم إعلامي واضح يغض الطرف عن هذه الجرائم.
هذه المرة يُفتح الملف إعلاميًا على خلفية حادثة تعذيب المواطن الأقصري، الذي أُلقي القبض عليه أثناء تواجده في مقهى بمنطقة العوامية صباح الأربعاء الماضي، وقد تم اقتياده إلى قسم الشرطة، حتي تلقت عائلته نبأ نقله إلى مستشفي الأقصر الدولي جثة عليها آثار تعذيب، وفق تقرير صادر من المستشفي، وذلك بعد نصف ساعة من إلقاء القبض عليه.
ركز البعض على الحادث بسبب الهبة الشعبية التي قامت على خلفيته في محافظة الأقصر، بعد أن اندلعت اشتباكات بين الأهالي وقوات الأمن أثناء تنظيم عدة تظاهرات من قِبل المواطنين الغاضبين من حادث مقتل طلعت شبيب تحت التعذيب، ما أدى إلى تعطيل حركة المرور بمدينة الأقصر، وإغلاق تام لبعض الشوارع والميادين الرئيسية بسبب اتساع رقعة التظاهرات بها، والتي تعالت هتافاتها ضد وزارة الداخلية حتى وصل الهتاف إلى المطالبة بإسقاط نظام السيسي.
عقب هذه الأحداث داعب خيال البعض مشهد الهبة الشعبية التي حدثت بعد واقعة مقتل الشاب خالد سعيد على يد قوات الشرطة بمدينة الإسكندرية قبيل ثورة يناير، والتي اعتبرها البعض شرارة لاندلاع ثورة يناير التي كانت مطالبها الأولية إقالة وزير الداخلية، في ذلك الوقت، حبيب العادلي.
هذه الأماني يصح تمامًا أن نُطلق عليها “أحلام ثورية غير ناضجة”، وهي حالة شبق لكل مكونات 25 يناير بل ولمقدماتها أيضًا، مع التشوق لتكرار الحالة بكل تفاصيلها الدقيقة، وهو أمر أقل الأوصاف فيه ستكون السذاجة والمراهقة.
الدولة في مصر أخذت مناعة ضد هذه الطريقة المتخيلة من البعض، وظهر ذلك تمامًا في سرعة رد فعلها على حادث كهذا، حيث أمرت النيابة بإجراء تحقيقات موسعة في هذه الحالة، وعلى الفور تم تشكيل فريق تحقيق تحت إشراف المحامي العام لنيابات الأقصر، في ظل متابعة مركزية من السلطات في القاهرة لاحتواء الأزمة والموقف.
فالنظام الحالي والدولة العميقة في مصر يعلمان جيدًا أن الأقصر أحد معاقلهم التي لا يمكن التنازل عنها بسبب حادثة كهذه، ويظهر ذلك في كافة نتائج الانتخابات السابقة لأحداث 30 يونيو، حيث كان مزاجها العام ضد التيار الإسلامي، وكات نتائج الانتخابات الرئاسية موضحة لهذا الأمر بشكل جلي، إذ كانت أقل محافظات الصعيد انتخابًا للرئيس السابق محمد مرسيـ رغم اكتساحه لأصوات الصعيد ككل.
كذلك كانت الأقصر مشاركة في أحداث الثلاثين من يونيو وما تلاها من تفويض للسيسي وغيره، بالإضافة لرفض شعبي للتظاهرات المحتجة على انقلاب الثالث من يوليو التي اندلعت من قِبل التيار الإسلامي، ناهيك عن دور شيخ الأزهر أحمد الطيب بالأقصر – مسقط رأسه -؛ كل هذه العوامل تجعل الأمر شبه مستحيل أن تترك الدولة الأمور لتتفاقم في منطقة قبلية ساخنة كالأقصر، طالها جزء من بطش الداخلية.
ومما يقضي أيضًا على أطروحة تكوين أيقونة جديدة لثورة مزعومة أن المزاج العام في مصر حاليًا قد استساغ سماع حوادث القتل والتصفية الجسدية من قِبل النظام، وصمتت قوى سياسية كثيرة على هذه الممارسات بحق تيارات سياسية أخرى، وغض كثيرون الطرف عن التنكيل بالتيار الإسلامي إما مكايدة أو عجزًا وضعفًا، ولكن المحصلة أن الأمر لم يعد صدمة لدى العوام، فمن الصعب الآن أن يستفيق الناس بسبب حادثة الأقصر التي تحدث يوميًا في الأقسام المجاورة لمنازلهم.
كذلك لن يحظى المواطن طلعت شبيب بنصف ما حظي به خالد سعيد أو غيره من الأيقونات، التي تم ترميزها في أحداث سابقة من مختلف الاتجاهات، فنحن في حالة “تضامن انتقائي” شديد السخافة يمر بها المجتمع المصري الآن بمختلف تياراته، فالنخب المسماه بالثورية لم تتحدث عن الواقعة بقدر ما تحدثت عن غيرها، كما أن عدم انتماء الضحية لتيار سياسي في المركز قلل من حظوظه في الحصول على قدر كبير من الدعم الإعلامي.
صحيح أن التظاهرات التي خرجت عقب تشييع جنازة طلعت شبيب في الأقصر وما حدث بها هي الأكبر على خلفية غير سياسية ضد نظام السيسي، لكن تواجدها في الصعيد أضعف أهميتها بالنسبة للمركز في مصر، لأن نخب السلطة والمعارضة في مصر مشاركين في تهميش الصعيد سواءً بسواء.
والأوقع في هذه الحالة دون مزيد من المبالغات أو المزيدات أن الدولة ستحتوي الموقف بقليل من التعقل الذي تفتقده في مواطن أخرى، ولكن الموقف يفرض عليها في مجتمع عشائري مسلح ألا تتعامل معه مثل فض تظاهرات في القاهرة على سبيل المثال.
كما أنه على الجميع أن يُدرك أن الحالة الثورية المنتظرة لن تأتي بالتضامن الانتقائي الذي شرعن كافة ممارسات النظام الحالي دون أن يشعر الجميع وأعطاه براحًا في فرض سيطرته، ولا تأتي أيضًا هذه الثورة المنتظرة بالمركزية التي سيطرت على العقلية المصرية المعارضة حتى باتت تنتظر الثورة من المركز وتساعد الدولة في تهميش الأطراف.