قيل إن الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب، ولكن في فلسطين المتاعب هي من تلاحق ممتهني الصحافة، إذ بات العاملون في هذا المجال في فلسطين بشكل عام، وفي الضفة الغربية على وجه التحديد، بين شقي الرحى، حين أصبحوا بين الملاحقات الأمنية والتضييقات والاعتقالات السياسية من جانب سلطة رام الله، وأمام رصاص الاحتلال الإسرائيلي وملاحقاته من جانب آخر.
تزداد المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون في فلسطين مع كل انتفاضة أو هبة أو حتى حرب يشنها الاحتلال، غير أنها لا تنعدم فيما سواهم؛ وذلك منذ زيادة عمليات اقتحام المستوطنين لباحات المسجد الأقصى المتزامنة مع الأعياد اليهودية بحماية أمنية من شرطة وجيش الاحتلال.
ومع الهبة الفلسطينية أو الانتفاضة الثالثة التي اندلعت ردًا على تلك الاعتداءات، والتي أدت إلى حدوث تطور ميداني بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي أوقع عشرات الضحايا بينهم ممن هم من غير الجانبين، من ناقلي مجريات الأمور على الأرض وتطوراتها، الذين غالبًا ما يكون أكبر همهم هو نقل الحقيقة كما هي لإبرازها للعالم، ولكن هناك من يريد نقل تلك الحقيقة مُختزلة أو بشكل ما يجمّله وتصب في صالحه، لذا يكون أعدائهم في المقام الأول هم الصحفيون.
ترّصد الاحتلال للصحفيين
اعتداءات الاحتلال ضد الصحفيين غالبًا تكون بتحكمها في زوايا التصوير والأماكن المسموح فيها بالتصوير، وصولًا إلى منع الصحفي بشكل كامل من أداء عمله، وخلال الفترة الأخيرة زادت الانتهاكات حد الاعتداء المباشر بالضرب على الصحفيين وإعاقتهم من ممارسة عملهم بمصادرة معداتهم وكاميراتهم، تطور الأمر إلى استهداف مباشر للطواقم الإعلامية وسيارات البث التلفزيوني في نقاط المواجهة بالضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، ووصل ذلك إلى إطلاق الغاز على بعض الصحفيين رغم ارتداءهم ما يبرز هويتهم، أو إطلاق الرصاص الذي أصاب نحو 33 صحفيًّا على الأقل، منهم 15 أُصيبوا بالرصاص الحي والمعدني المغلف بالمطاط، فيما أُصيب الآخرون بقنابل الصوت والغاز أو بحالات اختناق شديدة خلال تغطياتهم الميدانية، وذلك خلال الأسبوعين الأولين فقط من شهر أكتوبر، وذلك بحسب تقرير اتحاد الإذاعات والتلفزيونات الفلسطينية.
استهداف الصحفيين لم يقتصر على الصحافة المحلية ولكنه طال الصحافة الأجنبية أيضًا، فبحسب التقرير ذاته أصيب صحفيان أجنبيان أحدهما مصور لوكالة الأناضول التركية في غزة يدعى متين كايا، والذي أصيب أثناء تغطيته للمواجهات خلال نفس الفترة شرقي مدينة غزة، وسُجلت إصابة أخرى لصحفي أجنبي من الوكالة الأوروبية خلال تغطيته لمواجهات في محيط مستعمرة بيت إيل شمالي مدينة البيرة.
هذا علاوة على المحاولات الإسرائيلية المستمرة لاعتقال وتوقيف الصحفيين أو إبعادهم عن أماكن عملهم، فاحتجزت القوات الإسرائيلية الصحفية المقدسية هنادي القواسمي أثناء إعدادها تقرير عن الحركة التجارية في القدس، وآخران يعملان براديو منبر الحرية في الخليل، وهما رائد الشريف ورائد الزغير، اللذين قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باحتجازهم، فضلًا عن قرار إسرائيلي يقضي بإبعاد مراسلة قناة فلسطين اليوم في القدس، لواء أبو ارميلة، عن المسجد الأقصى بعد الاعتداء عليها هي الأخرى، وبالطبع يرافق تلك الحملات القمعية أخرى تحريضية ضد القنوات والشبكات الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي.
الحال في الضفة لا يختلف عن الحال في القدس عنه في غزة، والانتهاكات الإسرائيلة لا تفرق بين مواطن وصحفي بل إنها في كثير من الأحيان تتعمد استهداف الصحفيين ذكورًا كانوا أو إناث، فتغطية الأحداث في غزة كما وصفها مصور صحفي هي أشبه بذهابك للموت سيرًا على قدميك، فرصاص القوات الإسرائيلية ينهمر على الشريط الحدودي للقطاع بشكل عشوائي على المحتجين الفلسطينيين والصحفيين على السواء، بل وأحيانًا يمطر الاحتلال رصاصه بشكل مباشر على الصحفيين لمنع نقل الصور، ليُذكر هذا الأمر على الفور بالحادث الذي راح ضحيته 16 من العاملين بمجال الإعلام بغزة إبان استهدافهم المباشر واستهداف مقار إعلامية لنحو 20 مؤسسة إعلامية، خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة.
كما أن الانتهاكات الإسرائيلية ضد الصحفيين منذ بداية الانتفاضة، وبالتحديد خلال أقل من أسبوعين في بداية شهر أكتوبر، لا تقل وطأة عن مثيلاتها حتى يومنا هذا أو عن سالف الأيام التي سبقت الانتفاضة، فقد شهد شهر سبتمبر 20 اعتداء على الصحفيين المقدسيين، بين إصابات بالضرب أو بالرصاص المعدني المغلف بالمطاط، حيث أصيب 11 صحفي في يوم واحد خلال تغطيتهم لاقتحام قوات الاحتلال المسجد الأقصى، بالإضافة إلى إصابة صحفيين آخرين في الضفة، كما هاجم جنود الاحتلال الصحفيين وقاموا بتحطيم كاميراتهم والاعتداء عليهم أمام وسائل الإعلام، هذا بالإضافة لتوقيف واحتجاز وتمديد اعتقال عدد آخر منهم، فشهد الشهر بذلك نحو 41 انتهاكًا إسرائيليًا بحق الصحفيين، ليتجاوز هذا العدد ما سجله المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية في أغسطس عدد 37 انتهاكًا، وكذلك شهر يوليو الذي سجل فيه ما يزيد عن 30 انتهاكًا بحق الصحفيين.
وإضافة للسابق سرده من انتهاكات إسرائيلية بحق الصحفيين، فإن مؤسساتهم لا تسلم هي الأخرى من الاقتحامات المتكررة وإيقاف عملها، فجر الثلاثاء 3 نوفمبر، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باقتحام وإغلاق إذاعة “منبر الحرية” بعد قيامها بمصادرة أجهزة البث وتدمير معظم معدات الإذاعة، كما قامت القوات بتسليم الإذاعة بلاغًا يقضي بإغلاقها لمدة 6 شهور بزعم أنها تمارس التحريض.
شهد العام الحالي منذ مطلعه وحتى الآن ما إجماله 450 انتهاكًا ضد الحريات الإعلامية في فلسطين، بحسب تقرير المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية، في تقرير أصدره في اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، والذي حددته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، ويوافق يوم 2 نوفمبر، تلك الانتهاكات ارتكب الاحتلال معظمها، لكن ليس الاحتلال وحده من ينكل بالعاملين في المجال الإعلامي بفلسطين، إذ يسانده في ذلك أجهزة السلطة الفلسطينية، وأحيانًا تؤثر الأجهزة الأمنية الفلسطينية نفسها بجل الانتهاكات.
السلطة تشارك الاحتلال في قمع وسائل الإعلام
ربما الاعتداء الأشهر خلال الأسبوعين الماضيين الذي مارسته أجهزة السلطة الفلسطينية ضد مؤسسة إعلامية بالضفة الغربية تمثل في مضايقاتها، التي استمرت نحو 3 أيام، لمكتب صحيفة وموقع العربي الجديد بمدينة رام الله، قبل أن تقوم بإغلاقه، دون أن تسمح لإدارة الصحيفة بالحصول على قرار رسمي يفيد بتجميد عملها، وذلك بسبب نشر الجريدة لمقال اعتبرته السلطة الفلسطينية مسيئًا لها، ويُعد هذا السبب الهلامي هو نفسه الذي دفع السلطات الفلسطينية لإغلاق العديد من مكاتب القنوات والجرائد المحلية وكذا مكتب الجزيرة الفضائية قبل ذلك مع التضييق على العاملين بها.
المضايقات التي تقوم بها سلطة رام الله لا تقتصر علي منع الصحفيين من ممارسة عملهم، بل يطالهم ما يطال باقي أبناء الشعب الفلسطيني من الملاحقات والاعتقالات لمحاولة تكميم الأفواه وترهيب العاملين في المجال الإعلامي، فيتم الاعتقال بشكل مهين مع التعدي بالضرب والإهانات اللفظية وغالبًا ما تمارس نفس الأساليب في مباشرة التحقيقات معهم، كما أنه قد سُجلت بعض حالات تعذيب قامت بها أجهزة الأمن الفلسطينية للصحفيين.
الصحفي لدى وكالة شهاب الفلسطينية، عامر أبوعرفة، أحد الصحفيين الذين تعرضوا للاعتقال بسبب عملهم الصحفي ونشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي، روى أن أجهزة السلطة الأمنية قامت باقتحام منزله وتفتيشه ومصادرة أجهزة الكمبيوتر والكاميرات وبعض الأوراق والبطاقات الشخصية الخاصة به دون إذن قضائي، مشيرًا إلى أن أسئلة التحقيق انصبت حول كيفية إرساله للأخبار وإن كان هناك من يساعده في الضفة حتى تم سؤاله عن مقدار راتبه، وأيضًا سبب نشره خبرًا من إحدى الوكالات حمل عنوان اجتماع الكابينيت الفلسطيني، وانتقاده لاستخدام هذا المصطلح بالتحديد، ولفت أنه أفرج عنه بعد أيام من الاعتقال فيما تلقى تهديدًا آخر في نفس الليلة من مصدر مجهول، مختتمًا حديثه بوصف الحياة في الضفة الغربية كونها أصعب ما يكون بسبب الحالة الأمنية المتضخمة، التي خلقت حالة من الخوف والقلق الشديدين لدى المعارضين وصلت إلى حد الخشية من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي.
حالات القمع الإعلامي تلك تكون مزدوجة أحيانًا وتمارس من قِبل الاحتلال والأجهزة الأمنية التابعة للسلطة ضد “عدو واحد” وهو الصحفي، فبذكر مثال بسيط عن المصور الصحفي محمد عوض، الذي كان معتقلًا سابقًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ومن ثم اعتقلته أجهزة الأمن الفلسطينية التي بدورها قامت بتعذيبه، الأمر الذي دفعه لخوض إضراب عن الطعام، وحتى بعد الإفراج الأخير عنه لم يسلم من المضايقات والملاحقات، فقد اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ أقل من أسبوعين منزله لاستدعائه للتحقيق من قِبل جهاز المخابرات الإسرائيلي، ليظل كعشرات غيره من الصحفيين بين مطرقة وسندان طرفاها الاحتلال والسلطة الفلسطينية جراء مهنته.
التقارير الشهرية التي تصدر عن المنظمات الحقوقية المدافعة عن حرية الصحافة والحريات الإعلامية دائمًا ما تحوي عدة انتهاكات تقوم بممارستها أجهزة السلطة الفلسطينية ضد الصحفيين، وبعرض بعض الأرقام لتلك الانتهاكات خلال الشهور المنصرمة، فقد شهد شهر سبتمبر نحو 15 انتهاكًا كان 12 منها في الضفة الغربية، وفي الشهر الذي سبقه، أغسطس، كانت الانتهاكات بإجمالي 13، و12 أخرى في شهر يوليو، وتتمثل معظمها في الاعتداء على الصحفيين أو احتجازهم واعتقالهم، وكذلك في التضييق عليهم في ممارسة عملهم، وأيضًا منع بعض الطواقم الإعلامية من تغطية الأحداث وامتلاك تصاريح للتنقل والعمل.
تقرير منظمة مراسلون بلا حدود الصادر العام الماضي قال إن الأراضي الفلسطينية احتلت المرتبة الثانية، بعد سوريا، كأكثر المناطق فتكًا بالصحفيين، ولعل هذا لاشتراك جهتين في هذا الفتك سواء أكان الاحتلال الإسرائيلي أو سلطة رام الله بأجهزتهما الأمنية.