انطلاقًا من اعتقاد الإمارات اليوم بأنها ذات ثقل سياسي وقوة اقتصادية تؤهلها للعب دور مهم في الصراعات الناشئة؛ اهتمت الإمارات بمصر وبررت هذا الاهتمام بأنه نابع من خشية تكرار النموذج العراقي في مصر الذي غاب عنه الدور العربي بصفة عامة والخليجي بصفة خاصة، وبالتالي فهي ترغب في أن تكون لاعبًا فاعلاً في سيناريوهات ما بعد الصراع خاصة لما يمثله من عوائد اقتصادية جمة من حيث حجم الاستثمارات الخارجية المتوقعة، وتبعًا للسياسة الخارجية المتبعة فإن الإمارات تعتبر أن ما جرى في مصر من تسلم الإخوان المسلمين للسلطة خطر يهدد المنطقة برمتها؛ فعملت على دعم الثورة المضادة من أجل إسقاط حكم الإخوان المسلمين، لذلك سعت الإمارات ومعها السعودية والكويت إلى تعبئة الفراغ السياسي والأمني العربي من خلال القيام بمسؤولياتها القومية – على حد تعبيرها – بعد غياب دور مصر المؤقت بعد ثورة 25 يناير، واتخاذ خطوات استباقية تحول دون سقوط أنظمتها من خلال طرحها لمبادرات اتسمت بالدينامية والحيوية بطرح مبادرات جريئة على الجبهات الداخلية والخارجية تنتهي بإجهاض أحلام الثورة التي تراود البعض من مواطنيها.
المشروع الإماراتي المصري
تجلت ملامح المشروع السياسي المصري الذي بذلت الإمارات لأجله دعمًا ماليًا في نهج نظام السيسي الذي اتكأ على إستراتيجيات قديمة استخدمها أسلافه عبد الناصر والسادات ومبارك والمتمثل في النقاط التالية:
– إقصاء القوى الإسلامية من المشهد الاجتماعي والسياسي المصري، واعتبار حركة الإخوان المسلمين حركة إرهابية.
– حصر أولويات الدولة في مكافحة الإرهاب وإحلال الأمن وذلك من أجل الهروب من الاستحقاقات المحلية.
– تحجيم قوى الحراك الثوري من خلال إنكار حقهم في التجمع أو رفض أفكارهم أو تنظيم المظاهرات وتبني خطابًا عنيفًا ضد الإخوان المسلمين الذين قادوا مظاهرات يومية بطول البلاد وعرضها رافضين الانقلاب على الشرعية.
– محاولة القيام بمهام خارجية تعيد لمصر تموضعها الحقيقي في النظام الإقليمي وذلك في سبيل حصول نظام الانقلاب على الشرعية الإقليمية والدولية، وبالتالي ما اعتبره هذا الانقلاب تصحيح أخطاء حكومة مرسي وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع حركة حماس الفلسطينية.
– توظيف السلطة القضائية والأمنية والعسكرية في تثبيت الحكم واعتبار كل مخالف للأنظمة الجديدة هو إرهابي يستهدف النيل من هيبة الدولة ومؤسساتها الوطنية وإلحاق الضرر باقتصادها.
– قيام المؤسسة العسكرية بالإعلان عن حزمة إجراءات اقتصادية تستهدف إنعاش الاقتصاد الوطني ويعيد للمواطن كرامته.
وعلى سبيل التنفيذ لتلك الملامح، لم تأل إدارة السيسي جهدًا في نشر قوات الجيش والشرطة في الشوارع للتصدي للمظاهرات المنادية بعودة الشرعية وإسقاط حكم الانقلاب، وفض اعتصاماتهم؛ حيث تم قتل 817 شخصًا من المعتصمين في محيط رابعة العدوية في أغسطس 2013، وتحكمت الحكومة بالمساجد ومؤسسات المجتمع المدني، وأغلقت أي محطة تلفزيونية يديرها إسلاميون، فعلى سبيل المثال أغلقت الحكومة في فبراير 2015 حوالي 27000 مسجد في جميع أنحاء مصر لأنها لم تستطع التحكم في خطب الأئمة فيها، كما حلت وزارة التضامن الاجتماعي 112 منظمة غير حكومية لأنها كانت تابعة لحركة الإخوان فقط، وتم اعتقال أكثر من 16000 شخص في الفترة الممتدة من أغسطس 2013 حتى مارس 2014، كما يعمل الجيش بوتيرة عالية في خوض معارك ضارية ضد مجموعات سلفية جهادية في سيناء، وتم فرض حالة الطوارئ هناك للمرة الثالثة على التوالي.
كما عمل نظام السيسي على خلق عقبات لتأجيل الانتخابات البرلمانية ثلاث مرات على التوالي حتى ينفرد النظام بقراراته دون مساءلة وذلك من أجل أن يضمن تحقيق السيطرة على مقاليد الدولة بعد تصفية قيادات الصف الأول والثاني من حركة الإخوان الملسمين وإزاحتهم عن المشهد السياسي برمته، واضعًا خصومه السياسيين المتبقين ضمن مجموعة خيارات لا تخرج عن مسار التأييد مع طموح بوجود سياسي في البرلمان الجديد.
وتحت وطأة هذا الواقع الأمني والاجتماعي المتردي، أسر الشباب المصري ضمن ثنائية (الخضوع أو التمكين)، وهذا ما عبر عنه قسم من هذا الشباب بانضمامه إلى تنظيمات تمنحه هوامش سياسية يستطيع من خلالها امتلاك أدوات التمكين وتشحذه في مجابهة أركان الدولة العميقة التي تحرمه حقوقه الإنسانية والدينية والسياسية وذلك وفقًا لاعتباراته.
أما على الصعيد الخارجي فأثبت نظام الاتقلاب في مصر أنه سيعيد جملة التحالفات التي كانت قائمة قبل الثورة المصرية وهذا ما ظهر جليًا في التنسيق العسكري بين السعودية ومصر وقوات خليجية من بينها الإمارات في 14 أبريل 2015 لتنفيذ مناورة “إستراتيجية كبرى” ترسيخًا للتعاون الإستراتيجي بين الدولتين سياسيًا والتزامًا من قِبل المؤسسة العسكرية المصرية بضمان وسلامة أمن الخليج؛ حيث قال السفير هاني خلاف، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق للشؤون العربية إن القاهرة أكدت أكثر من مرة أن أي تهديد لأمن الخليج هو تهديد مباشر لمصر”.
توقعت دولة الإمارات أن حكم القوى الإسلامية سيشجع سقوط مصر في قبضة التطرف والفشل، الأمر الذي يجعل الطريق مفتوحًا أمام المتطرفين لإسقاط الدول الخليجية؛ لذلك كان لا بد باعتقادها من عودة العسكر للحكم لمواجهة الانهيار السياسي للمنطقة خصوصًا بعد ما شهدته المنطقة، وتعيد الاستقرار لتفاعلات النظام الإقليمي العربي في مواجهة تهديدين رئيسيين: أولهما السياسة الإيرانية التوسعية التي تنتهجها إيران ومنعها من لعب دور شرطي المنطقة، وثانيهما التنظيمات العابرة للحدود مثل حزب الله وداعش وجماعة الإخوان المسلمين التي تعتبر خطرًا أمنيًا على أنظمتها الحاكمة.
دوافع دعم الإمارات للانقلاب العسكري
يشكل الدفع باتجاه الإطاحة بحركة الإخوان المسلمين وأذرعها وعدم السماح لهم بالتمكن والوصول للسلطة إن كان في مصر أو في ليبيا أو في أي منطقة عربية سببًا رئيسيًا لقيام دولة الإمارات بالدعم الاقتصادي والمالي للمؤسسة العسكرية المصرية، كما شكلت العلاقة المضطربة بين الإخوان المسلمين كتنظيم إقليمي مع الحكومة الإماراتية محددًا حاسمًا لتوجهات دولة الإمارات الخارجية، حيث كانت تعتبر الإمارات دعوة قادة الإخوان في الإمارات لإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية في بنية النظام الإماراتي والمطالبة بإجراء انتخابات لأعضاء المجلس الوطني الاتحادي وتعديل دستوري يكفل له الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة ما هي إلا دعوة تستهدف الأمن الوطني وترمي للإطاحة بالحكم وتأسيس دولة إسلامية وفق أفكار سيد قطب، ولطالما عبرت الإمارات عن موقفها الحاسم حيال هذه الحركات، ولعل من أهمها تصريحات الشيخ عبدالله بن زايد وزير الخارجية أن جماعة الإخوان المسلمين لا يحترمون السيادة الوطنية ويعملون على اختراق هيبة الدول وقوانينها وقلب أنظمة الحكم فيها.
وفيما يتعلق بالسلوك الإماراتي مع السيسي، فإنه وبعد تولي عبد الفتاح السيسي زمام الحكم بدأت الإمارات بالاشتراك مع السعودية في إقامة تحالف إقليمي مع مصر مدفوعة باعتبارات عديدة:
– تتفق الإمارات مع حليفها عبد الفتاح السيسي في القضاء على حركات الإسلام السياسي وعدم السماح لهم بالوصول إلى السلطة أو تصدير تجربة هذه الحركات وخصوصًا الإخوان المسلمين لدول أخرى لذلك يعتبر تأسيس هذا التحالف توافقًا على الأهداف والرؤى للدفاع عن المصالح الوطنية للأطراف المتحالفة.
– تنظر الإمارات إلى مصر بأنها حليف مهم للحفاظ على موازين القوى الإقليمية ضد التهديد الإيراني، سواء باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث والإيحاء الإيراني المستمر بأن البحرين محافظة إيرانية، ودعم وتحريك الشيعة في داخل الخليج العربي لبث الفوضى في المنطقة.
– رغبة الإمارات والسعودية في التكيف مع المتغيرات الدولية وتنويع دائرة خياراتها الدولية وعدم الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية في الصيغ الخاصة بحماية أمن الخليج.
– تعتبر دول الخليج مصر إحدى الدول الكبرى في الإقليم بعد تصدع كل من العراق وسوريا، ورغبتها في تحقيق التعافي للاقتصاد المصري، ومن ناحية أخرى تعتبر مصر دول الخليج خزان العمالة المصرية وتأتي منها أكبر التدفقات الاستثمارية والتبادلات التجارية والمساعدات الخارجية.
أسباب دعم الانقلاب ومناهضة حكم مرسي
لم ترد الإمارات تصديق قيام شرعية لقوة إسلامية منتخبة انتخابًا ديمقراطيًا بمجالها الحيوي، فهذا قد يسبب لها مشاكل على المدى المنظور مثل انتشار عدوى الديمقراطية إلى بلادهم، وهناك أسباب تتعلق بموازين القوى في الصيغ السياسية القائمة في النظام الإقليمي، بالإضافة إلى أسباب اقتصادية، حيث شكلت ملامح التوجهات الخارجية لجمهورية مصر إبان حكم محمد مرسي تغييرًا في خارطة الفاعلين الإقليمين وتبدل في المواقع أثر عمومًا على المحاور السياسية القديمة، واعتبرت دولة الإمارات هذه الملامح تهديدًا لمصالحها الجيوسياسية في المنطقة، ويمكن تلمس أهم تلك الملامح:
– تخوف الإمارات من تشكل حلف مصري (سني) إيراني (شيعي) بدأت تظهر معالمه بعد التقارب المصري الإيراني في عهد مرسي والرسائل المبهمة وغير المطمئنة لدول الخليج بهذا الشأن؛ ما أثارت مخاوفهم وخصوصًا الإمارات من وقوعها بين فكي كماشة بين دولتين كبيرتين يحكمهما قوى الإسلام السياسي السني والشيعي.
– تغلغل ما اعتبرته الإمارات “نفوذًا تركيًا” في المسرح الإقليمي عامة والمسرح المصري خاصة عبر بوابة الحركات الإسلامية المصرية، الأمر الذي يوحي بتغيير معادلات التوازن والتموضع للقوى في المنطقة العربية، خاصة بعد تحول هذا التقارب إلى مشروع شراكة اقتصادية إستراتيجية بدأت تظهر ملامحه مع فعالية المنتدى الاقتصادي المصري التركي الذي جرى خلال زيارة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ورغبته في زيادة حجم التبادل التجاري والاستثماري إلى خمسة مليارات دولار خلال عامين.
– مثل تقارب الإدارة الأمريكية مع قوى الإسلام السياسي في سبيل ضمان المصالح الأمريكية تحديًا إستراتيجيًا آخر لدولة الإمارات خصوصًا أن ملامح هذا التقارب قائم على التعامل مع مصر كوحدة غير مرتبطة بمحور إقليمي مما يعزز فرضيات تآكل محور الاعتدال العربي، خاصة أن التقارب الأمريكي مع قوى إسلامية سيتيح لها تحسين علاقاتها المترهلة مع باقي التيارات الإسلامية.
ومن جملة الأسباب التي جعلت الإمارات تعادي الرئيس مرسي وحكومة الإخوان وتدعم المعارضة هي قيام الحكومة المصرية آنذاك بحزمة إجراءات اقتصادية تخفف من الاعتمادية على الخارج في سبيل تمكين القوى والموارد الوطنية وتأسيس اقتصادًا مصريًا خدميًا يعتمد على السياحة ولوجستيات الموانئ البحرية، بالإضافة إلى الاقتصاد الإنتاجي كإنتاج الإلكترونيات والسيارات والمعدات وغيرها، ولعل من أهم هذه الحزم هو مشروع تطوير قناة السويس، مما جعل الإمارات تتوقع بناءً على هذا المؤشر سحب كافة امتيازاتها المتوقعة في البنية الاستثمارية في هكذا مشروع، وبالتالي سيشكل هذا المشروع (في هذا الموقع الجيبولتيكي المميز) إضافةً لخسارات الاستثمار مجالأ تنافسيًا على المدى المنظور مع إمارة دبي، وبيئة جاذبة للرأسمال العربي والإقليمي والدولي تنهي تربع الإمارات على صدارة الاقتصاد الإقليمي على المدى البعيد، وهذا ما تعتبره حكومة دبي تهديدًا لهويتها الاقتصادية التي تتميز بها حاليًا.
يتبع هذا المقال الجزء الثاني منه بعنوان “أشكال الدعم الإماراتي لمصر ومآلاته على استقرارها”