ترجمة وتحرير نون بوست
بين عامي 1936 و1939، لخصت الحرب الأهلية الإسبانية الدراما الفظيعة التي كان يشهدها العالم في ثلاثينات القرن الماضي في صراع واحد؛ ففي إسبانيا اندثرت أوهام اليسارية الستالينية، مارست آلة الحرب الهتلرية حربها الخاطفة، وتم تطبيع عمليات القصف الجوي للمدنيين المشبعة بدوافع التطهير السياسي؛ الحرب الإسبانية كانت مثالًا عن حرب الوكالة التي تجري بالنيابة عن القوى الشمولية والاستبدادية، عامل جذب للمتطوعين من جميع أنحاء العالم الغربي، ودرسًا في عجز الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا.
كما كان الحال في إسبانيا، أصبح الوضع اليوم في سورية، فمرة أخرى نرى انقسام ونزيف دولة جرّاء حرب الوكالة الأيديولوجية، ولكن هذه المرة بين القوى السلفية ودول الخليج وبين قوى الشيعة الإثني عشرية للنظام الإيراني، وبتدخل من القوى الإقليمية والعالمية الأخرى التي تعمل في خلفية المشهد، ومرة أخرى نشهد وقوع الفظائع المتصاعدة، كالحرب الكيميائية، والمذابح والاضطهادات الدينية، ونشهد عودة قطع الرؤوس والعبودية وممارسات الصلب والذبح، ومجددًا أصبح المتطوعون المدفوعون بأيديولوجياتهم المموجة يهرعون إلى البلاد من كل فج عميق، ومرة أخرى تبدو القوى الليبرالية عاجزة عن الوصول بالصراع إلى نهايته.
ولكن مع ذلك هنالك فرق واضح ما بين الحالتين، فالحرب الأهلية الإسبانية انتهت بشكل سريع نسبيًا، فبعد أقل من ثلاث سنوات من القتال، ظفر قوميو فرانكو بالحرب، أما الصراع السوري، فدخل عامه الخامس، ومازال مستمرًا، والنتائج التي تظهر اليوم إبان خمس سنوات عجاف من الصراع، لا تبدو أكثر وضوحًا من تلك التي تبدت في عام 2012 أو 2014.
على الصعيد الجزئي، يبدو هذا الاختلاف ما بين النتائج نوعًا سوداويًا من النتائج الجيدة، بالطبع ليس بالنسبة لسورية، بل لباقي دول العالم؛ فأحد الأسباب التي أفضت إلى وضع الحرب الأهلية لأوزارها في إسبانيا بسرعة نسبية، كانت الفعالية الهائلة للمساعدات العسكرية التي أرسلتها دول المحور لأسباب قومية؛ فإسبانيا أثبت، أو بدت وكأنها تثبت، فعالية الحرب الشاملة كأداة حكم مدفوعة بالمساعي الأيديولوجية، حيث تم سحق اليسار، وحكم نظام فرانكو اليميني المتطرف، وللناظر من بعيد، بدا الأمر وكأن أدولف هتلر أسس ضمن إسبانيا قواعد راسخة لطموحاته المروعة.
أما في سورية، فقد طُرحت دروس مختلفة للغاية عن النموذج الإسباني، فالحرب السورية لا تبدو نهايتها واضحة المعالم، والفصائل المتناحرة بالكاد تبدو قادرة على وضع نهاية للحرب، وكذلك أيًا من القوى الأيديولوجية الرئيسية المنخرطة في الصراع لا تبدو قادرة على الفوز به على أرض الواقع؛ فالملالي الإيرانية ساعدت الرئيس بشار الأسد للبقاء على قيد الحياة، ولكنها لم تستطع دفعه للتوسع والسيطرة، وبالمقابل، فقدت دول الخليج السيطرة على وكلائها السنة، وتواجه الآن مخاطر توسع تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أضحى يهددهم في عقر دارهم.
هذا يعني بأن طهران والرياض لا يمكنهما النظر لسورية على أنها قالب مناسب لتحقيق التوسع الإقليمي أو للظفر بانتصار أيديولوجي كبير، وهذا بدوره يجعل ظهور نسخة شرق أوسطية مشابهة للصراع الهائل الذي شهدته إسبانيا في أعقاب الحرب الأهلية، أمرًا مستبعدًا للغاية، فبالرغم من طموحاتهم وعداواتهم المستحكمة، لا الإيرانيون ولا دول الخليج، يبدون مستعدين أو أكفّاء بما فيه الكفاية لمباشرة صراع من هذا النموذج.
على صعيد آخر، لا تبدو آمال القوى العظمى العاملة على الأرض السورية، والتي تتمتع بقوة تخولها بدء حرب أوسع على التراب السوري، كروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، واضحة ضمن المشهد السياسي، فجميع هذه الدول لا تدرك على وجه التحديد النتيجة التي تود أن تغتنمها جرّاء الصراع في سورية؛ والغرب لا يكاد يستطيع أن يحدد قراره حول الفصيل السوري الذي ينبغي عليه أن يقصفه أو يدعمه، كما أن حافة المجابهة الأخيرة التي اشتعلت ما بين روسيا وتركيا تبدو كاستعراض للعضلات السياسية أكثر من كونها مجابهة تحمل هدفًا إستراتيجيًا واضح المعالم.
بالرغم من ذلك، لا يبدو اشتعال نوع من الحرب العبثية والكارثية على الأراضي السورية أمرًا مستحيلًا، ولكن على عكس الوضع في أوكرانيا، التي يطمح فلاديمير بوتين للسيطرة على أراضيها، القوى الخارجية العاملة على الأراضي السورية لا تبدو ساعية للسيطرة والتحكم بهذه الأراضي أو ما يقع حولها، وطالما لا توجد أرض تسعى هذه القوى للتصارع عليها أو لاحتلالها، سيبقى خطر نشوب صراع مستمر للقوى العظمى على الأراضي السورية أمرًا بعيد التحقق.
هذه الرؤى تبدو جيدة بالمقارنة مع الوضع الذي انحدرت إليه أوروبا قبيل أفول الحرب الأهلية الإسبانية، ولكن إذا كانت العناصر المتراكبة ضمن النزاع السوري لا تؤلف على الأغلب بشائرًا لاندلاع حرب عالمية ثالثة واسعة النطاق، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر بأن هذه الحرب تعد نذيرًا يمهد الطريق أمام ظهور مجموعة مختلفة من الشرور، كانهيار المؤسسات، الدخول في حقبة الاضطراب الدائم، وثبوت عدم قدرة المؤسسات العالمية على احتواء وحل المشاكل التي يُفترض أنها أُنشأت لغاية حلها.
إذا كانت الحرب في إسبانيا تشهد على بزوغ عصر التصعيد الشمولي والاستبدادي، فإن الحرب في سورية دللت على خواء مفهوم الدولة القومية، والسهولة التي يمكن فيها للتعصبات العرقية والدينية أن تطغى على مفهوم القومية بمجرد انفلات لجامها.
إذا أثبتت الحرب في إسبانيا تصاعد أرضية جبهة الحرب الشاملة على الغرار الشرقي، فإن الحرب في سورية أثبتت بأنها ساحة لتدريب الإرهابيين من نمط منفذي تفجيرات باريس، وإذا افتتحت الحرب في إسبانيا حقبة مسيرة جحافل الجيوش الجرارة، فإن الحرب في سورية افتتحت حقبة مسيرة المدنيين المتمثلة بحركة اللاجئين التي أفضت إلى أزمة جيوسياسية غامرة.
إذا أثبتت الحرب في إسبانيا بأن هتلر وستالين كانا سعيدين بالتدخل جرّاء فشل صمود المركزية الليبرالية، فإن الحرب في سورية أوضحت بأن نموذج الباكس أمريكانا يتحطم بدون وجود قوة أو تحالف قادر على الحلول مكان هذا النموذج.
أخيرًا، إذا كانت الحرب في إسبانيا تمثل تهيئة للحرب العالمية الثانية، فللحق نقول، الوضع السوري لا يمثل تهيئة لأي شيء، بل إنه حدث رئيسي استقطب أنظار الجميع، بدون أن يستطيع أحد التنبؤ بزمن انحساره ونهايته.
المصدر: النيويورك تايمز