ترجمة وتحرير نون بوست
يمكن القول بأن الهدف الإستراتيجي للسياسة الخارجية الروسية يتمثل بمنع ترسيخ الولايات المتحدة لهيمنتها العالمية، وتبدت هذه الإستراتيجية بأجلى صورها في عام 2014 من خلال الرد الروسي العنيف تجاه الإطاحة بحكومة أوكرانيا الموالية لروسيا وظهور قيادة موالية للغرب ضمن الجمهورية السوفيتية السابقة.
كانت روسيا قلقة للغاية من موالاة وقرب الحكومة الأوكرانية الجديدة من الغرب، كما اطردت مخاوفها من احتماليات وإرهاصات الوجود العسكري لحلف الناتو في خاصرتها الجنوبية؛ مما أطلق سلسلة انتقامية من الأفعال وردود الأفعال بين روسيا والغرب، بقيادة الولايات المتحدة.
وفي خضم سعيها لتحقيق هذه الأهداف، باشرت روسيا حملتها الجوية المكثفة في سورية في سبتمبر عام 2015، حيث صعّدت العملية العسكرية الروسية في سورية من مستويات الصراع الروسي – الأمريكي إلى مستوى المواجهة الجيوسياسية.
مع تطور وتكشّف الأحداث في سورية، أضافت تصاعد موجة الجهاديين عنصرًا جديدًا إلى القلق الروسي المتنامي أساسًا، مع خوض الأخيرة لحرب مفتوحة الأمد مع الإسلاميين المتشددين من الشيشان وغيرها من جمهوريات شمال القوقاز منذ تسعينيات القرن الماضي، والتي أسفرت عن استهداف البلاد بالعديد من الهجمات الإرهابية، وفي يونيو 2015، أعلنت جماعة جهادية في الشيشان ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية.
مصالح إيران الإستراتيجية في سورية
لمجموعة من الأسباب، كان العداء الإيراني تجاه إسرائيل العامل الأشد رسوخًا في سياسة إيران الخارجية منذ الثورة الإيرانية في عام 1979، وبغية مواجهة الهيمنة الإسرائيلية الكاسحة في المنطقة، أسست إيران حزب الله في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي ليكون بمثابة قوة عاملة بالوكالة عن إيران، حيث كانت الأخيرة تنظر إلى حزب الله باعتباره قوة رادعة وتهديدًا محتملًا ومستمرًا للأمن الإسرائيلي في المنطقة.
وفي هذا الصدد، كانت إيران تعتبر سورية، نظرًا لنهجها المعادي لإسرائيل والمناهض للولايات المتحدة، حليفًا إستراتيجيًا، وممرًا حيويًا يربط دمشق بطرطوس على ساحل البحر المتوسط، ويمكّن الإيرانيين من مواصلة تقديم الأسلحة وأشكال الدعم إلى حزب الله.
مع سقوط الديكتاتور العراقي صدام حسين في عام 2003، برزت إيران كلاعب رئيسي في العراق بفضل جماعات المعارضة العراقية المسلحة التي دعمتها لأكثر من عقدين من الزمان؛ مما مهد الطريق لتشكيل “محور المقاومة” الذي تقوده إيران ويمتد من إيران إلى لبنان ويمر دون عائق عبر العراق وسورية، و”المقاومة”، كما تسميها إيران، تتضطلع أيضًا بمهمة القوة الرادعة لإحباط الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
ولكن مع تصاعد الفوضى في سورية، بزغت الجماعة السلفية المناهضة للشيعة، داعش، التي أصبحت تشكّل خطرًا داهمًا وهائلًا ليس فقط لمصالح إيران الإستراتيجية في العراق وسورية، بل أيضًا لأمنها القومي الداخلي، لذلك لم يعد من الممكن لإيران أن تعتمد على الجيش السوري من خلال استمرارها بدعم نظام بشار الأسد فقط، خاصة بعد أن انخرط جيش النظام في حرب ضروس وغير متكافئة مع تنظيم داعش وعدة جماعات معارضة.
بشكل عام، يتم دعم الجماعات السورية المعارضة من قِبل العديد من الدول العربية في المنطقة فضلًا عن تركيا والولايات المتحدة، حيث دعمت الولايات المتحدة هذه المجموعات في محاولة إستراتيجية للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ولمجابهة هذا الوضع، خلقت إيران ما يسمى بـ”قوات الدفاع الوطني”، وهي قاعدة شبه عسكرية كبيرة في سورية تحاكي نجاحات إيران في تنظيم وكلائها في العراق ولبنان.
هل هي علاقة صداقة مؤقتة؟
مع ظهور التحالف المفروض على أرض الواقع بين روسيا وإيران في سورية، طفقت مقالات الرأي والتحليلات في وسائل الإعلام الغربية التي تشير على نحو متزايد إلى ضعف وشائج هذه الشراكة واستحالة استمرارها على المدى الطويل، وتمثلت الحجج التي تم اعتمادها لدعم هذا الموقف بما يلي:
– انعدام الثقة
يرى بعض الخبراء بأن تاريخ انعدام الثقة ما بين البلدين يعود إلى القرن الـ19، عندما ضمت روسيا بعض الأراضي الإيرانية لولايتها، كما تشير التحليلات إلى اطراد انعدام الثقة جرّاء دعم الاتحاد السوفييتي للعراق أثناء الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، ومعارضة روسيا لبرنامج إيران النووي ودعمها لعقوبات الأمم المتحدة على إيران، بالإضافة أيضًا إلى تعليق روسيا تسليم دفعة صواريخ S-300 في عام 2011 لإيران التي دفعت ثمنها مسبقًا، والتي نتج عنها تقدم طهران بدعوى قضائية ضد روسيا بالمقابل.
ولكن الحقيقة هي أن التحالفات بين الدول لا تقوم على أساس الثقة، بل استنادًا على المصلحة الذاتية، فالمصلحة الخاصة هي التي تدفع الدول للدخول في تحالفات مع دول أخرى، وكلما تلاقت المصالح الخاصة للدول بشكل أكبر، كلما ازدادت وشائج الصلات والتحالفات بينها على نحو أكبر.
كما يتضح من حالات عديدة، العديد من الحلفاء المقربين لا يثقون ببعضهم البعض؛ فالإسرائيليون يتجسسون على الأمريكيين، وهؤلاء يتجسسون بالمقابل على الإسرائيليين، ألمانيا تساعد الأمريكيين للتجسس على الدول الأوروبية المجاورة، ويتم ذلك أثناء مراقبة أمريكا للهاتف المحمول الخاص بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
إذن، لتحديد قوة العلاقات ما بين بلدين، ينبغي للمرء أن يدرس كيف تتلاقى مصالحهما؛ فروسيا وإيران تتشاطران مصلحة كبرى تتمثل بالوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية، والولايات المتحدة ترفض بناء علاقات ودية تقوم على مبدأ الشراكة المتساوية، كما ترفض ضمن علاقاتها أن تأخذ مصالح الأطراف الأخرى بعين الاعتبار، وهذا الطابع من التعامل يحبط علاقات أمريكا مع البلدان التي تختلف بنظرتها ومبادئها وقيمها ومصالحها عن الولايات المتحدة.
منطقيًا، لا بد لروسيا أن تدعم، من مبدأ مصلحة أمنها القومي، فرض العقوبات على إيران، طالما ارتأت بأن هناك بعدًا عسكريًا للبرنامج النووي الإيراني، ولكن مع ذلك، هذا لا يعني بأن روسيا سوف تولي ظهرها لإيران، وهي الشريك الأكثر موثوقية في المنطقة للمساعدة في إحباط الهيمنة الأمريكية.
– المنافسة ضمن سوق الطاقة العالمي
يرى بعض المراقبين بأن إيران وروسيا تتنافسان ضمن أسواق الطاقة، حيث يزعمون بأن إيران قد تصبح منافسًا لروسيا إذا باشرت بتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهو السوق الذي تهيمن عليه روسيا بشكل كامل، ولكن خلافًا لهذه الحجة، تبدو روسيا بحاجة ماسة إلى السوق الإيرانية، وتعتبر نفسها بالفعل أحد أكبر المستفيدين من رفع العقوبات عن إيران.
في سبتمبر الماضي، وقعت الدولتان مذكرة تفاهم بقيمة 74 مليار دولار لتطوير علاقاتهما التجارية والاقتصادية في مجموعة متنوعة من القطاعات، على رأسها قطاعي النفط والغاز، ولكنها تشمل أيضًا الصناعات الثقيلة، التعدين، التجارة، الزراعة، السياحة، الخدمات المصرفية، التكنولوجيا، والكهرباء.
وبحسب وزير الطاقة الروسي إلكسندر نوفاك، تتفاوض إيران وروسيا حاليًا لتبادل عقود النفط والغاز، ومن المحتمل أيضًا تأسيس مصرف يعمل على تمويل مشاريع النفط والغاز المشتركة، وفقًا لنوفاك.
دليل آخر يشير إلى أن روسيا لا ترى إيران كمنافس لها في مجال الطاقة، يتمثل بالدور النشط الذي لعبته روسيا تتويجًا للاتفاق النووي بين إيران ودول الخمسة زائدًا واحدًا، وهو الدور الذي أشاد به الزعيم الإيراني معربًا عن تقديره للمساعدة الروسية.
إيران وروسيا تتمتعان بدوافع متباينة للتدخل في سورية
حاولت مجموعة عريضة من الخبراء إثبات قصر أجل التحالف بين إيران وروسيا من خلال الزعم بأن المصالح الوطنية التي تبتغيها الدولتان مختلفة للغاية في سورية، فصحيح بأن روسيا وإيران تنظران إلى سورية من منظور إستراتيجي مختلف، ولكن ذلك لا يتناقض مع تحالفهما المفترض.
روسيا تدرك أنه بدون قوة برية متحمسة وموثوق بها على الأرض، لن يكون لعملياتها العسكرية أدنى فرصة للنجاح في الحرب السورية غير المتكافئة؛ فحملتا القصف الأشد عنفًا اللتان شهدهما التاريخ، حملة الولايات المتحدة في فيتنام والاتحاد السوفييتي في أفغانستان، توضحان بجلاء كيف يمكن للمتمردين أن يتقبلوا ويمتصوا خسائرهم الفادحة ليستمروا بالقتال.
ومن هذا المنطلق يصبح وجود إيران، من خلال حزب الله في لبنان، وقوات الدفاع الوطني التي تنظمها في سورية، حاسمًا لتحقيق الأهداف الروسية على التراب السوري، وكما أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “حملة روسيا المعقدة في سورية، كانت لتكون مستحيلة لولا إيران”، فبدون وجود حليف مدفوع بغايات أيديولوجية وسياسية متينة للغاية، كانت روسيا ستواجه في سورية ما واجهه الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
المصدر: ميدل إيست آي