بات سؤال الأمن التحدي الأبرز الذي يواجه الجميع دون تمييز في تونس، يواجه الدولة والشعب على حد السواء؛ ذلك أن الإرهاب الذي لم يستثن أحدًا قد ألقى بظلاله على كامل حدود الوطن ورسم لنفسه طريقة في التوسع والانتشار، فانتقل من الجبال والأطراف ليضرب في الساحل والمركز، فكانت عملية متحف باردو النوعية في شهر مارس الماضي على مستوى العاصمة وعلى بعد أمتار قليلة جدًا من أحد أهم مقرات السيادة وهو مجلس نواب الشعب، وراح ضحيتها أكثر من 30 سائحًا، ثم يأتي تفجير يوم الثلاثاء، 24 نوفمبر الجاري، الذي هز حافلة للأمن الرئاسي في قلب العاصمة تونس، هذا التفجير حصد أرواح 12 أمنيًا بالإضافة إلى عدد من الجرحى، بما فيهم مدنيين.
على إثر العملية الأخيرة عقد المجلس الأعلى للأمن القومي اجتماعًا عاجلًا وخرج بجملة من الإجراءات، التي تمثلت أساسًا في غلق الحدود لمدة 15 يومًا مع الجارة ليبيا، إعلان حالة الطوارئ على مستوى تونس الكبرى، التي تضم 4 محافظات، وتأكيد تطبيق قانون الإرهاب.
اللافت للانتباه بعد العملية الإرهابية أن عددًا من وسائل الإعلام المحلي عوض أن تدين الإرهاب والإرهابيين، وتعمل على حفظ السلم المجتمعي، نراها تحاول تزييف الوعي وتطرح جملة من المغالطات وتبث أفكارًا من قبيل أن الحرية والإفراط فيها ساهم في انتشار الإرهاب في البلاد، نحن اليوم لسنا بصدد التشريع للفوضى ولا أحد يستطيع أن يبرر أو أن يبحث عن تبرير لمثل هذه العمليات الإرهابية المتكررة التي ساهمت بطريقة مباشرة وغير مباشرة في ضرب مؤسسات حيوية، وكادت أن تنسف بالمنجز السياسي في البلاد، لكن ما يثير الاستغراب تعالي بعض الأصوات في المنابر الإعلامية، التي جعلت الأمن في كفة والحرية في كفة ثانية، في إشارة إلى ضرورة الحسم واختيار أحدهما وكأن الأمرين لا يلتقيان معًا، وكأن المشهد الوطني والتحول المرجو إلى دولة القانون والمؤسسات وسيادة الأمن والسلم المجتمعي لا يكون إلا بالتضحية بمكسب الحرية، وهو ما تبقى حتى الآن من المنجز الثوري في البلاد.
ما لاحظناه أيضًا على عدد من وسائل الإعلام بعد العملية الإرهابية الأخيرة تكريس لمنطق أجوف يتهم مناخ الحرية ويصفه بحالة انفلات تعيشها البلاد، لينسب لها كل التهديدات التي باتت تؤرق الجميع.
لا يمكن لعاقل أن يدخل تحت جبة هذا الخطاب العبثي وينخرط مع هذه المعادلة الخاطئة التي تخير الناس بين الحرية أو الأمن، هذه الموازنة لا تستقيم بالمنطق السليم وترفضها كل العقول الوازنة، ولا يُخفى علينا أنه عندما صودرت الحرية وتم التضييق عليها تسبب ذلك في وقوع كوارث حقيقية هزت أركان العالم ولم تستثن أيًا من الدول، والخوف اليوم أن يتم استغلال العمليات الإرهابية، سواء في تونس أو غيرها من الدول، كغطاء شرعي للقيام بتجاوزات حقوقية والتضييق على الناس وممارسة جملة من الانتهاكات بحقهم.
لو سلمنا جدلًا اليوم أننا مخيرون بين الحرية والأمن فالأولى أن نختار الحرية لأنها الكفيلة باستجلاب الأمن وتركيزه، فالحر لن يختار الفوضى والإرهاب والخراب، في حين أن الأمن يمكن أن يحيد عن مساره ويقمع كل صوت حر بتعلة محاربة الإرهاب، وهذا كان مستند الأنظمة الديكتاتورية في خنق الأصوات وقمع الحريات، ومن العبث أن نعيد صياغة واعتماد خطابات مستهلكة وآليات متهالكة أثبتت فشلها وكانت أحد أهم الأسباب التي أوصلتنا إلى الحالة الراهنة.
لا يختلف اثنان في أن الإرهاب مدان وأنه يسير ضد إرادة الشعوب في التحرر والانعتاق وبناء أمنها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ لذلك يجب أن نحسن طرح الأسئلة، ونحن نتحسس الظاهرة ونشخصها، حتى نحسن الإجابة ونتخير الحلول الكفيلة بمجابهة شبح الإرهاب، الذي خيم على سماء العالم، وعجزت أقوى أجهزة الاستخبارات عن صده والتقليص من نطاق فعله.