ترجمة وتحرير نون بوست
هذا المقهى وجميع من فيه هم من منفيي الرقة، ذات الطهاة الذين يقدمون وجبات الدجاج المشوي ومشروبات الشاي الشديد الحلاوة، وذات الشيشة التي يترافق دخانها مع صخب السياسة العارم، جميعهم انتقلوا من الرقة إلى هنا، ولكن كل منهم يحمل في جوفه معانٍ مختلفة من المأساة والإرهاق.
لقد تم نقل المقهى بأكلمه، بموظفيه وعماله وقائمة طعامه، من الرقة عبر الحدود التركية إلى مدينة غازي عنتاب، بعد أن خيّم تنظيم الدولة الإسلامية بظله الطويل والثقيل على كامل أرجاء وطنهم وحياتهم.
معظم الزبائن والعاملين هم من خريجي السجون الوحشية لمتطرفي داعش، أما الباقون فهم من سكان الرقة الذين هربوا من إرهاب تنظيم الدولة بداعي الخوف أو الاشمئزاز.
وصول شخص غريب إلى المقهى أثار حالة من عدم الارتياح، فقبل بضعة أسابيع قُتل شخصان من الجماعة في منزلهما على يد جاسوس تظاهر بأنه لاجئ آخر.
“أي أمر آخر يدفعنا للقدوم إلى هنا سوى مطالبة تنظيم داعش برؤوسنا؟”، قال رجل أعمال في عقده الرابع، طالبًا بأن يتم التعريف به باسم أبو أحمد لأن ولديه يقطنان على الجانب الآخر من الحدود، وبالنسبة له هذه المسافة بعيدة للغاية، “نحن هنا، ولكن قلوبنا هناك”، يقول رجل أبو أحمد.
رغم بقاء بعض البيوت والأسر التي لا تزال تقطن في العاصمة الفعلية لتنظيم داعش في الرقة، إلا أن القليل من منفيي الرقة لا يزالون يحملون آمالًا عريضة في نتائج المعركة ضد الجماعة المتطرفة، ولكن مع ذلك، يتزايد قلقهم من احتمال انضمام بريطانيا للحملة الجوية ضد عدوهم المرير، بعد سنة ساعدت فيها الغارات على زعزعة استقرار الجماعة، ولكنها لم تقترب قيد أنملة من إجلائهم خارج حدود المدينة.
“هل يمكن للشخص أن يكون سعيدًا حقًا إذا تم قصف مدينته من قِبل الجميع؟ لا”، قال أبو أحمد، وأضاف قائلًا بحسٍ من الكوميديا السوداء التي يتشاطرها معه العديد من المنفيين: “الجميع قصفوا الرقة، كل شخص ينزعج جرّاء مشكلة ما مع زوجته يقرر أن يأتي ليقصف الرقة، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، جميعهم قصفوا الرقة”.
يخشى المنفيون أن يزهق المزيد من القصف المزيد من الأرواح البريئة في المدينة، حيث يتم احتجاز السكان المدنيين كسجناء بيد داعش بغية استخدامهم كدروع بشرية، كما يشعر الكثيرون بالحيرة والإحباط من واقع تقرير مصير مدينتهم ضمن العواصم البعيدة وقاعات الاجتماعات، التي لا يحضرها أهل الرقة، وفي المناقشات التي لا تُسمع فيها أصواتهم.
يوضح لنا رواد مقهى غازي عنتاب المنفيون من الرقة بأن قلقهم يتمحور حول كون القصف الجوي لا يمتلك سوى فرصة ضئيلة للغاية لطرد وتدمير داعش بدون مساندة من القوات البرية، وهذا القلق يطرد نتيجة لعدم وجود أي خيارات حقيقة ومتاحة لدخول قوات برية لتحرير المدينة من أيدي الجماعة السلفية، خاصة وأن القوات المعارضة لداعش أضحت تشكل خليطًا من الميليشيات المحلية الضعيفة، والمليشيات الكردية غير المرحب بها ضمن المدينة التي يقطنها غالبية عظمى من السكان العرب.
“الناس لا يحبون داعش على الإطلاق، ولكن إذا جاءت القوات الكردية مع قوات التحالف لتشريدهم، سيصبح السكان أمام أمرين أحلاهما مر، وربما سيفكر البعض بأن تنظيم داعش هو أهون الشرين، لذلك فإن قدوم المليشيات الكردية سيدفع البعض للانضمام إلى التنظيم”، قال ممرض غادر الرقة على مضض في خريف هذا العام بعد أن حاولت المجموعة إلقاء القبض عليه، علمًا بأنه لا يزال لا يعرف حتى الآن سبب اشتباه التنظيم به.
استطاع هؤلاء أن يلمسوا نفاق المجتمع الدولي الذي تجاهل مقتل عشرات الآلاف من السوريين على يد حكومتهم لسنوات، ولكنه تأهب وتحفّز للعمل بعد قتل داعش للسكان الأوروبيين والأمريكيين.
“لماذا لم ينبع رد الفعل الغربي إلا تجاه داعش؟ لماذا لم يحفل أحد بنا عندما كان النظام يقصفنا في سورية؟ هل الإرهاب يضحى إرهابًا فقط عندما يحصل ضمن الدول الغربية؟ أما نحن فلا نكترث بمصدر القنابل التي تقتلنا، لأن الأمر سيان”، قالت منى، مدرسة وناشطة فرت من داعش على طريقة العميل السري جيمس بوند قفزًا فوق أسطح المنازل في حيها الذي كانت تقطن ضمنه بالرقة.
علاوة على كل ذلك، يشعر منفيو الرقة بالقلق جرّاء التعريفات الغربية والروسية للفوز، فالظفر بالمعركة، من وجهة نظرهم، تعني القضاء على جلاد لإطلاق العنان لجلاد آخر، يتمثل بالرئيس بشار الأسد، حيث أمضى العديد من منفيي الرقة أيامًا وشهورًا عجافًا في سجون نظامه، تمامًا كما قضوها في سجون داعش، لذك يرونه المسبب الرئيسي لبؤسهم.
“لو كنت أستطيع الذهاب لبرلمان المملكة المتحدة لإلقاء خطاب، فإن أول شيء كنت سأقوله لهم هو طلب القضاء على سبب مشاكلنا جميعًا، الأسد، وليس القضاء على أعراض المرض الأساسي، داعش”، قال أبو أحمد، وتابع: “مئات الآلاف من الأشخاص لقوا حتفهم في السنوات القليلة الماضية، ومع ذلك لم يأتِ أحد لقصف الحكومة في دمشق”.
يرى منفيو الرقة بأن الأسد يدعم ضمنيًا تنظيم داعش الذي ساعد ظهوره على تحويل الاهتمام العالمي بشكل كبير بعيدًا عن الهجمات التخريبية للجيش السوري وسرقات الدولة لشعبها، كما يشيرون إلى واقعة شراء الحكومة السورية للنفط من داعش، وهو الأمر الذي انتقده المسؤولون الأمريكيون مؤخرًا، ويقولون بأن قصف القوات الحكومية للرقة تراجع بحدة بعد سيطرة تنظيم الدولة على المدينة.
“لن يفيدنا محاربة التحالف لتنظيم داعش لوحده، لأن الأسد يتمتع بعلاقات جيدة معهم” قال فراس، ناشط وطالب طب كان يتحضر لتقديم امتحان شهادته الطبية عندما اعتقلته قوات الحكومة السورية، وهرب بعد الإفراج عنه من سطوة تنظيم داعش في الرقة، ويتابع قائلًا: “محاربة الجماعة بمعزل عن نظام الأسد لن تنهي الحرب، لأن نظام الأسد هو المشكلة الرئيسية بالنسبة لنا”.
في خضم السياسة والمخاوف، يبدو أن القلق الأكبر الذي يخامر أولئك الذي تركوا أسرهم وأحبائهم داخل الرقة يتمثل بسقوط ضحايا من المدنيين، فلا أحد من الذين أمضوا أيامهم في المناطق الخاضعة حتى للقصف “الدقيق” لقوات التحالف، لا يروي قصصًا محزنة عن موت قتلى من الأبرياء جرّاء عمليات القصف.
“في البداية كان السكان سعداء بالضربات الجوية الغربية، لأن النظام كان يقصف بشكل عشوائي، أما التحالف فلقد كانت هجماته أكثر دقة، ولكن بعد فترة من الوقت، بدأت ضربات التحالف تسفر عن سقوط قتلى وجرحى من المدنيين، بما في ذلك طفل من أطفال الشارع الذي أعيش فيه”، قال الممرض السابق، وأضاف: “لقد كان صبيًا يبلغ من العمر 12 عامًا، يركب دراجته في حي للمدنيين، فاستهدف التحالف سيارة لداعش، مما أسفر عن مقتل الطفل عن طريق الخطأ، لقد كانوا يحاولون استهداف أمير الأمن في الرقة، ولكن للأسف لم يكن الأخير في السيارة حينئذ”.
شمالًا، وبالقرب من بلدة تل أبيض الحدودية، تم محو سيارة كاملة تستقلها نساء مزارعات كن متوجهات نحو الحصاد بصاروخ من قوات التحالف، يقول أبو أحمد، ويضيف شارحًا بأن السكان المحليين يعتقدون بأن التحالف استهدف الفلاحات لأنهن كن يغطين وجوههن بأقمشة لتوقي الشمس والغبار، فأخطأ طيران التحالف وخلط بينهن وبين تمويه الوجه الذي يستعمله عناصر داعش.
“قطعًا لا، من فضلكم أخبروا البرلمان البريطاني بألّا يوافق على دخول بريطانيا في حملة القصف”، قالت فتاة فرّت مؤخرًا من الرقة قبل حوالي الشهر، بعد أن ضاقت ذرعًا بالحياة غير المحتملة ما بين مطرقة قصف التحالف وسندان الحرمان الذي يفرضه تنظيم داعش، وتابعت موضحة: “لا يمكن تحمل الحياة هناك على الإطلاق لأسباب عديدة، حملات القصف المميتة بشكل عام، وقواعد داعش الرهيبة التي يتم فرضها علينا، والحالة الاقتصادية المزرية، لم يكن لدينا أي عمل، ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالمال، فالإنسان لا يطيق الجلوس في المنزل طوال اليوم بدون أن يفعل أي شيء وكأنه دابة”.
أولياء الأمور منعوا أطفالهم من الخروج، وعمل المرأة خارج المنزل هو أمر غير مطروح في ظل حكم داعش، لذلك بقيت عائلات بأكملها في المنزل ليتسلل الجنون ببطء إلى عقولهم، قالت الفتاة، وهي خريجة حديثة من كلية الكيمياء، طلبت عدم الكشف عن اسمها نظرًا لبقاء العديد من أقاربها في الرقة.
“لا تستطيع أن تعرف مطلقًا متى ستهبط عليك القنبلة، لذلك كنا نفضل البقاء في المنزل معظم الوقت، ففي المنزل على الأقل يمكنك أن تموت مع عائلتك، وليس وحدك في الشارع حيث لا يعرفك أحد”.
رحلة الوصول إلى تركيا استغرقت من الفتاة 24 ساعة، قضت أغلبها في الظلام مع المهربين، لقطع المسافة إلى الحدود التركية التي لا تتجاوز 55 كيلومترًا، حيث أصبح الوضع كذلك إثر فرار العديد من السكان من القصف في الرقة، مما استدعى قيام داعش بحظر مغادرة السكان لتحويلهم إلى دروع بشرية.
“عائلتي حاولت المغادرة ثلاث مرات، ولكن دون جدوى، فالأمر ممنوع”، قال فراس، وتابع: “إذا كنت مريضًا جدًا يمكنك المغادرة، ولكن هناك طبيب ألماني يعمل مع داعش يجب أن يشخّص مرضك أولًا، فإذا لم يكن هناك علاج متوفر في مناطق سيطرة داعش، يعطيك الطبيب إذنًا بالمغادرة”.
الإغلاق التام لطرق الخروج من المدينة هو أحد أوضح الدلائل على أن الحملة الجوية التي باشرتها الولايات المتحدة وحلفائها في العام الماضي، المترافقة مع دعم قوات المعارضة في العراق وسورية، تزيد من إحكام قبضة داعش على المدينة.
الرقة يتم إفراغها ببطء من أسر داعش وعشرات أعضاء النخبة في صفوف الجماعة، “الكثير من القادة بعثوا أسرهم إلى الموصل، لأنهم يعتقدون بأنه سيتم قطع الصلات”، قال منفي آخر، وهو مسؤول محلي سابق، طلب أن تتم تسميته بأبو محمد.
مع ذلك، وعلى غير العادة، يقبل أبو محمد بحذر بانضمام بريطانيا لغارات التحالف الجوية، فمن وجهة نظره لا بد من التخلص من داعش حتى بدون وجود بديل واضح ليحل محل التنظيم، حيث يقول “يجب علينا أولًا التخلص من داعش، ومن ثم يمكننا أن نقرر ما علينا أن نفعله لاحقًا”، ولكن بالنسبة للعديد من الآخرين الذين خاطروا بحياتهم للقضاء على المجموعة السلفية، فإنهم يرون بأن الحملة التي تركز فقط على تدمير داعش لن تنهي معاناة الرقة طالما بقيت قوات الأسد قادرة على القتال والاستيلاء على المدينة.
الدعم الروسي والإيراني للأسد ترك العديد من السوريين متوجسين من قبول القوى الغربية ببقاء الأسد بالسلطة، رغم أن هذه القوى طالبت غير ما مرة باستقالة الطاغية، “هل ستساعدنا الغارات الجوية على الرجوع إلى وطننا وتدمير النظام وداعش على حد سواء؟ داعش والنظام إرهابيان، فكيف يمكن للغرب أن يقصف داعش ويبقي النظام، الذي يقصفنا كل يوم، حرًا طليقًا؟”، تقول منى.
القلق الذي يطغى على مواطني الرقة، في خضم أحلامهم بالعودة إلى الوطن، يتجسد بأن القوى التي تقصف داعش لا تفكر مليًا بالقوة التي ستحل مكان المجموعة في حال دحرها من المدينة؛ فالفصائل المعتدلة نسبيًا، والتي تشكل قوام الجيش السوري الحر في المنطقة، ضعيفة وغير منظمة، والقوات الكردية التي دحرت داعش من المدن الأخرى مكروهة للغاية، حيث يخشى الكثيرون من سكان الرقة بأن تمارس هذه القوات حملات تطهير عرقية ضدها، خاصة بعد ظهور تقارير عديدة عن ممارسات تشكل انتهاكات لحقوق الإنسان مارستها القوى الكردية ضد السكان العرب بعد استيلائها على بلدة عين العرب الحدودية، مما أدى إلى اطراد المخاوف بعد تقدم ذات المجموعة تجاه الرقة تحت غطاء من القصف الجوي لطيران التحالف.
“إذا كانوا يريدون المساعدة، فعليهم اختيار الشريك المناسب، القوات الكردية ليست مناسبة، لأن اختيار الشريك الخطأ قد يثير رد معاكس من قِبل السكان”، قال الممرض السابق، وتابع: “تل أبيض هي مثال ممتاز على ذلك، حيث استخدمت قوات التحالف القوات الكردية كشريك لها، وتم تهجير الكثير من الناس نتيجة لذلك”.
علاوة على كل شيء، الأشخاص المصدمون نتيجة لتحول الثورة التي بدأت من أمل التحرر والكرامة إلى صراع وكابوس يطغى على حياتهم، يخشون بأن العنف لن يولّد سوى المزيد من العنف؛ وفضلًا عن تشككهم من القوة التي ستكون قادرة على الحلول مكان داعش على الأرض في حال نجحت سياسة تكثيف الضربات الجوية في هزيمة التنظيم، لا يؤمن سكان الرقة بأن دول التحالف التي لزمت الصمت حيال تصاعد حربهم يحوزون فكرة أفضل.
“في حال تمت هزيمة داعش، لن يتم دعم الجيش السوري الحر، لأنه ليس جديرًا بالثقة”، قال الممرض، واتفق معه أبو محمد حيث قال: “أنا أحب الجيش السوري الحر، ولكننا بحاجة لقوة حقيقية، فالجيش الحر ليس منظمًا ولا يتمتع بالإمدادات اللازمة”.
المصدر: الغارديان