مما يلحظه المراقب للعلائق الداخلية بين الفصائل العسكرية على الساحة السورية أن نتاج التخلق الذي مرت في أطواره فصائل الثورة السورية، عبر سنوات من العمل الثوري، وعبر أحداث جسام، أظهرت أطرافًا فاعلة، وقضت على أخرى، كان قد أحدث هذا التخلق “شكلًا هندسيًا” من مجموع هذه الفصائل؛ على التناقضات الكامنة والظاهرة بينها، يؤدي هذا “الشكل” وظيفة ما على الساحة السورية العسكرية، وأن أي تلاعب في واحد من عناصر هذا الشكل، مهما بلغ تناهيه في الصغر، سيؤدي لا محالة إلى تغييره، وبالتالي إلى تغيير الوظيفة التي يؤديها.
وأغلب الظن أن القوى الكبرى الفاعلة في الملف السوري على علم بذلك، وهي تعمل جاهدة من وراء عملية التصنيف التي ستجري في الأردن الشهر الجاري لتحديد الفصائل التي “تستحق” الوضع على قوائم الإرهاب، على تغيير هذا الشكل، ومن ثَم، على تغيير الأداء الذي يقوم به.
من التغييرات المبدئية والتي تراهن هذه القوى على حدوثها قبل التصنيف، هي تغيير صورة التحالفات القائمة حاليًا بين الفصائل المختلفة بناء على فكرة “التخويف من التصنيف”، حيث إن هذا الشكل الهندسي المشار إليه أدى منذ نهاية العام الفائت وحتى نهاية أبريل من هذا العام إلى تحقيق تقدمًا نوعيًا، تمثل بالسيطرة على إدلب وعلى مناطق واسعة في محافظات أخرى، بل وهدد بالوصول إلى حواضن النظام في محافظتي حماة واللاذقية، قبل أن تجري أحداث سياسية كبرى ساهمت في تعطيل قدرة هذا الشكل على أداء وظائفه.
فالتصنيف إذن، يراد منه بالدرجة الأولى التخويف للتغيير، وليس لمحاربة كل هذه الأطراف التي ستُصنف على قوائم الإرهاب دفعة واحدة، وهو ما لا تغفل هذه القوى الفاعلة عن استحالته في المرحلة الراهنة على أقل تقدير.
ولذلك فإن التصنيف سيُعنى بتلك العناصر الصغيرة في هذا الشكل الهندسي والتي تمثل كذلك زوايا ساندة فيه، سيكون في زحزحتها ذلك التأثير المطلوب في هذا الشكل وفي وظيفته من ثَم.
هنا، تنتهي مهمة مؤتمر الأردن، لتبدأ الخطوة التالية في أبها – أو الرياض – ومؤتمرها الذي سينعقد في 13:11 ديسمبر الحالي، حيث تتمثل هذه الخطوة بتشكيل واجهة عسكرية من خلال ما أطلق عليه “جيش تحرير وطني”، ضمن “بنية قوية للمعارضة تتضمن مجلسًا تمثيليًا (شبه برلمان) يضم مختلف القوى المعارضة، ولجنة تنفيذية منتخبة تعين وفدًا تفاوضيًا باسمها” بحسب دراسة للمركز العربي، يجمع الجيش هذه الفصائل ليحقق مطلبًا من مطالب الثورة طال انتظاره، إلا أن هذا الجيش سينشغل – لزامًا – بمقاتلة الأطراف التي تم تصنيفها على قوائم الإرهاب، وإخراجها من الصف الوطني، بوصفها فصائل أجنبية ورافضة للامتثال للقرار الوطني، وغيرها من الصفات، التي تجلب عليها اليد المقاتلة من كل جانب!
سيكون على من تشمله هذه الواجهة وينضوي تحت رايتها، حتمًا، أن يمتثل لأمرها وألا يشق عصا طاعتها، حيث ستكون هذه الواجهة، ضمن البنية المشار إليها آنفًا، مسؤولة أمام المجتمع الدولي عن تطبيق قرارته واجبة التنفيذ!
وهنا، يكون مؤتمر أبها/ الرياض قد أدى دوره، وهي المهمة الصعبة التي إن نجحت فإنها ستتيح للسائرين في مسار فيينا أن يمضوا في طريق تأهيل الأسد – أو نظامه على الأقل – عبر الإصلاحات التي أشارت لها تسريبات روسية في وقت سابق، من خلال اتفاق روسي إيراني مع ممثلي النظام.
لا بد من التنبيه، مرة أخرى، على أن تشكيل واجهة عسكرية وسياسية تمثيلية للثورة والثوار مطلب من مطالب الثورة، وغاية لا بد من الوصول إليها بعد سنوات من التضحية التي بذلها ويبذلها السوريون، وأن الرأي أعلاه، ومن غير خضوع مهين للعقل، ومن دون امتهان لحرية الإرادة، من خلال تبنٍ أرعن لنظرية المؤامرة، فإنه لا يتناقض مع هذا المطلب وإنما ينبه على خطورة ما تحيكه هذه القوى في سبيل إجهاض مشروع الثورة الذي تورطت جميع الأطراف فيه.
من حق ثوار سورية أن يأخذوا ضمانات حقيقية لإثبات جدية المملكة العربية السعودية في المضي قدمًا لتشكيل هذه الواجهة التمثيلية الضرورية للثورة والجانب العسكري منها على الخصوص، وتتمثل هذه الضمانات بإقدام السعودية على خطوتين ضروريتين، الأولى، فك ارتباطها مع الإمارات المتحدة التي تتبنى رأيًا مخالفًا للسعودية في ملفات مصيرية متعددة في المنطقة ومنها الملف السوري، والثانية، إنهاء دعمها للنظام المصري الذي يقف في صف الروس والإيرانيين بصورة شبه علنية.
“الشكل الهندسي” يتيح للثوار أمرين في آن واحد، الأول، الجرأة في طرح الخيارات السياسية، والمطالبة بالضمانات اللازمة، والثاني، المرونة والمناورة في المفاوضات المختلفة، وهذا ما يفتقده بعض العاملين في الثورة السورية، والمطلوب اليوم وعي أكبر بضرورة الشراكة الحقيقية على مستوى الأهداف أولًا ثم الوسائل ثانًيا، دون إغفال للفوائد التي يمكن جنيها من عناصر هذا الشكل الهندسي جميعها.