درجت الكثير من جماعات الإسلام السياسي في القرن الماضي وحتى اليوم على الترويج لعبارة “القرآن دستورنا” كأحد الأسس الفكرية التي تقوم عليها هذه الجماعات، حتى إن هذه الفكرة ترسخت في اللاوعي عند الغالبية العظمى من الإسلاميين، وأزعم أن شيوع مثل هذه العبارة هو من أكبر الدلائل على التداخل المفاهيمي بين الدين والدولة عند معظم المسلمين اليوم، فالمسلمون اليوم بعمومهم، وحتى بكثير من مفكريهم ومنظري جماعاتهم، لا يستطيعون التفريق بين الدين والدولة، كما أنهم لا يستطيعون تعريف الكثير من المصطلحات والتعريفات المتعلقة بالسياسة الإسلامية بشكل واضح ومتفق عليه، ولعل هذا هو السبب الأول الذي يؤدي إلى قصور فكري واضح تعاني منه الأمة اليوم.
إذا أردنا أن نتحدث عن معنى هذه العبارة فعلينا قبل ذلك أن نتحدث عن الدستور ومعناه، فالدستور هو وثيقة مدنية تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويتم ذلك من خلال تحديد واجبات كل منهما وحفظ الحقوق الأساسية للمجتمعات والأفراد، والدستور بهذا المعنى البسيط قديم، إذ إن علماء الآثار وجدوا أدلة كثيرة على أن الدستور كان معروفًا عند الدول في الحضارات العراقية القديمة، وهذا يعني أن التأريخ للدستور يمتد على الأقل لأكثر من ألفي سنة قبل الميلاد.
والدستور بهذا المعنى البسيط كذلك كان حاضرًا وبقوة في الدولة الإسلامية الأولى، التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فبعد هجرته إلى المدينة مباشرة دعا الناس إلى التوافق حول “صحيفة المدينة” التي أسست لأمة واحدة مكونة من أكثر من دين وقبيلة وعرق، وتحث الصحيفة على حفظ الحقوق والقيام بالواجبات من قِبل كل فئة من هذه الفئات نحو المجتمع ككل، وهذا مما يجعلنا نعتبر هذه الصحيفة من أقدم الدساتير المدنية بشكلها الحديث في التاريخ.
وأما العبارة بحد ذاتها “القرآن دستورنا” فتحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن يكون الإطلاق مجازي، ويقصد الذين يطلقون هذا المعنى أن القرآن دستور للمسلمين في حياتهم، إذ يجب على المسلمين أن تكون حياتهم كلها محكومة وفق تعاليمه، وهذا يعني بالضرورة حاجة الناس إلى الدستور المدني للدول، ومع ما في هذا المعنى من قصور برأيي ولكننا نجده حاضرًا في فكر الحركة الإسلامية التي تضم أكبر الجماعات الإسلامية حضورًا في العالم الإسلامي ككل.
المعنى الثاني: فهو أن القرآن يمثل دستورًا حقيقيًا للدولة الإسلامية، وأن صياغة دستور مدني هو ضرب من ضروب العلمانية الكافرة، وهذا ما نراه حاضرًا وبقوة في فكر الجماعات السلفية المتطرفة كالقاعدة وما يتبعها، ولا شك أن هذا المعنى يحمل تصادمًا ورجعية فكرية لا يمكن إنكارها.
ولو أردنا تفنيد المعنى الأول فيجب علينا أن نقول أن وصف القرآن بالدستور لحياة المسلمين وصف يسيء للقرآن نفسه، فالتشبيه باطل، لأن الدستور منتج بشري قاصر، والقوانين والدساتير كلها عرضة للتغيير والتعديل حسب الظروف والعصور، أما القرآن فهو إلهيٌ تام، وهو ثابت لا يتغير ولا يتبدل، كما أن هذا المعنى يساهم كذلك في الخلط المفاهيمي والعسر الفكري الذي تعاني منه الأمة منذ عصور، لأن الوعي المتدني عند مجموع الأمة بسبب تخلفها الحالي ينتج تصورات باطلة بسبب مثل هذه العبارات، ولا شك أن المردود سيكون وخيمًا لو كانت هذه التصورات الخاطئة منسوبة للإسلام.
وأما المعنى الثاني فلا شك أننا لا نحتاج الكثير من الحجة لدحضه وتفنيده، لأن القرآن غير مخصص لينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما أنه غير مخصص لتوضيح الحقوق والواجبات، ولو كان كذلك لما احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساس لصحيفة المدينة ولاكتفى بالقرآن، ولو فعل ذلك لانهارت دولة المدينة منذ اليوم الأول، لأن نصوص القرآن بطبعها نصوص عامة وغير متخصصة ولا تصلح لإدارة الدول، بينما الأصل في الدستور أن تكتب عباراته بشكل مخصص وتفصيلي.
وفي الحقيقة فإن المنزلة الحقيقية التي يجب أن نوليها للقرآن الكريم بالنسبة لسن القوانين هي وجوب اعتماد القرآن كمصدر التشريع الأساسي في أي منظومة قانونية لدولة مسلمة، فالقيم العليا التي وردت فيه والتوجيهات والأحكام التي اشتمل عليها كلها يجب أن تكون معًا في حزمة واحدة مُشكلة أساسًا متينًا للدستور، وبذلك فإن منزلة القرآن أسمى وأعلى وأرفع مكانةً من أي دستور، ولهذا نقول إن القرآن والتشريع الإسلامي عمومًا صالح لكل زمان ومكان، إذ إن القيم العليا التي جاء بها الإسلام والقرآن لا يمكن أن يرفضها أي مجتمع بشري سوي يعيش في أي عصر من العصور.
نحن المسلمين مؤمنون بأن القرآن بالأصل كتاب ديني، ولكن هذا لا يتنافى مع كونه دليلًا لمنهج حياة متكامل، ولهذا يحتوي القرآن على كثير من الإرشادات والتوجيهات التي ينبغي للمسلم أن يتبعها في حياته، ولكن من مجانبة الصواب أن نصف القرآن بما ليس فيه، فوصفه أو تشبيهه بالدستور هو تشبيه خاطئ وخارج عن السياق، وذلك بسبب فرق الاختصاص، كما أنه من الواجب علينا ألا نسميه بأسماء ليست له، خصوصًا لو عرفنا أن كلمة “دستور” كلمة فارسية الأصل وليست عربية، فهل سيرضى أي مسلم بأن يُسمى القرآن العربي المبين باسم غير عربي؟
القرآن كتاب ديني بالدرجة الأولى، والدستور وثيقة مدنية سياسية بالدرجة الأولى، وتوضيح المفاهيم وتجليتها مطلوب؛ في عصر أصبحت الفوضى هي السمة الأساسية للفكر الديني والسياسي فيه.