في خضم الأحداث الدموية التي طالت المعارضين للنظام في مصر خلال العامين الماضيين، خَفَتَ الاهتمام ببعض القضايا والملفات كملف المصابين رغم ما طالهم من دموية ووحشية الأجهزة الأمنية المصرية، الأمر الذي غير مسار حياتهم بدرجة كبيرة، وهنا محاولة لإعادة إبراز الاهتمام بتلك القضية والحديث بإسهاب نوعي عن معاناة هؤلاء الضحايا الجسدية والنفسية والمادية منذ لحظة إصابتهم برصاصٍ طائش من قوات الأمن أثناء مشاركتهم في تظاهرات سلمية معارضة، وكيف تغيرت وتحولت حياتهم، وكيفية تأقلمهم مع هذا التغيير.
لم تكن فتاة وصلت سن الـ 18 تتصور أن تشكل حركتها مشكلة أو عبئًا عليها يومًا، إلا أن أسماء جمال طالبة المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية واجهتها تلك المشكلة في هذه السن الصغيرة بعد أن أصيبت بطلقتي خرطوش في ساقها اليمنى تسببت في بترها، إذ أصبحت أكبر مشكلة تواجهها أسماء هي التنقل والحركة والذهاب للجامعة أو الخروج مع الأصدقاء، حيث لم تعد كما كانت قبل تاريخ 21 نوفمبر 2014، فبعد هذا اليوم لم يعد للفتاة غير ساقٍ واحدة ما أثر على حركتها الطبيعية وتنقلها.
ترى أسماء التي أصبحت في الـ 19 من عمرها أن قوات الشرطة المصرية التي أطلقت عليها الرصاص أثناء مشاركتها في تظاهرة سلمية معارضة للنظام في منطقة سيدي بشر بالإسكندرية هي المتسبب في مشكلة الحركة التي تعانيها، وتقول: “عند الله تجتمع الخصوم”، رغم محاولاتها في التأقلم مع الوضع الجديد الذي باتت عليه، محاولةً التصبر والبحث عن السعادة والأمل بعد تغير حياتها.
قد انقضى أكثر من عام على رحلة أسماء في العلاج، ولازالت الصغيرة تفكر في مشكلة التنقل والوصول إلى جامعتها، خاصةً وأن الأمطار باتت تغرق الشوارع خلال فصل الشتاء، ولكي تصل لجامعتها التي تبعد عن منزلها مسافة كبيرة فعليها أن تركب أكثر من وسيلة مواصلات، كما أن البعض يرمقها بنظرات قاسية ومؤلمة وأحيانًا يوجه لها عبارات نابية، وهو ما يزيد من العبء الذي ألقي على كاهل الصغيرة دونًا عنها.
تلك الرحلة العلاجية بدأت بإجراء عمليتين جراحيتين لأسماء لمحاولة إسعافها ونزع الرصاصات من ساقها، لكن في النهاية كان الحل الذي اختاره الأطباء هو بتر ساقها اليمنى، لتفيق الفتاة في 26 نوفمبر من العام الماضي لتجد نفسها بساقٍ واحدة، وتبدأ رحلة علاجية أخرى تساعدها على التعايش بدون ساقها اليمنى.
أسماء أخذت في التدريب على استخدام طرف صناعي في دار تأهيل للطرف فلربما يعيد ذلك لها قدرتها على الحركة الطبيعية، إلا أن الصغيرة غير سعيدة البتة بهذا الطرف لأنها ترى أنه لن يعوضها عن ساقها، كما أنها تجد صعوبة في التأقلم معه لإنها لا تتمكن من الحركة بسلاسة من خلاله، فيما أكدت أنها مستمرة في التدريب عليه حتى تتحسن حركتها من خلاله أكثر لأنه لا حل غيره أمامها، إلى أن تقوم بتركيبه بعد أن يأخذ مكان البتر في ساقها شكل الطرف ليسهل على الأطباء تركيبه.
أسرة أسماء تكبدت مبالغ كثيرة خلال رحلة العلاج تلك، رغم أن أصدقاء أسرتها ساعدوهم في تلك المصروفات، كما عانت الأسرة مع أسماء شقاءً نفسيًا في التأقلم مع الصعوبات التي واجهت ممارسة الصغيرة لحياتها الطبيعية، كما أن للوضع الأمنى في مصر تأثير سلبي يقيد ويحد من حركة الصغيرة بحرية.
أما إصابة والد وعائل لأسرة مكونة من سبعة أبناء وزوجة تسكن في العاصمة المصرية – القاهرة – أمرٌ صعب للغاية، فإصابة محمد مصطفى الصغير، البالغ عمره 41 عامًا منعته من أن يعمل ويوفر المصروفات الأساسية لأسرته، فأصيب محمد في الثامن من يوليو من العام 2013 خلال الأحداث المعروفة باسم “أحداث الحرس الجمهوري” برصاص حي في الصدر والظهر إضافةً إلى إصابات متفرقة بطلقات الخرطوش تسببت في استئصال القولون وجزء كبير من الأمعاء وقطع الحجاب الحاجز.
ظل محمد نحو أربعة شهور يعيش بأمعائه وهي خارج جسده على غير الطبيعي، فتسببت الإصابة في خروج الأمعاء خارج جسده إلى أن تم استئصال جزء كبير منها، وساعده في إتمام عملية الهضم خلال تلك الفترة تركيب الأطباء له مخرجي كولستومي، وكان تركيب المخرجين هاذين هي أول عملية يجريها محمد ووافقت تاريخ يوليو 2013، وفي شهر نوفمبر من نفس العام اضطر محمد لإجراء عملية ثانية لإغلاق فتحتي الكولستومي واستئصال الأنسجة الميتة، وذلك لإعادة المسار الطبيعي لخروج الفضلات.
لم تكن عملية تركيب الكولستومي بالبسطية، فقد تسببت في أضرار صحية لمحمد اضطرته إلى إجراء عملية ثالثة في مارس 2014 بسبب ظهور فتاق مكان مخرجي الكولستومي وثالث تحت القفص الصدري، ثم عملية أخرى في أغسطس من العام نفسه بسبب فشل الشبكة وظهور الفتاق فى نفس الأماكن، فتم استئصال جزء آخر من الأمعاء وتركيب شبكة.
ثم أجرى محمد عملية خامسة لنفس الغرض في مارس من العام 2015 بسبب عدم وجود أضلاع أو جدار بالبطن والذي تسببت الإصابة وكثرة العمليات الجراحية في التأثير عليه بشكل كبير، حيث تم وضع شبكة أخرى على الشبكة القديمة خلال تلك العملية، لكنها سرعان ما فشلت هي الأخرى وسقطت بعد أقل من شهر، ومع كثرة العمليات التي أجرت في منطقة البطن لدى محمد في وقت قصير منعت الأطباء من إجراء عملية أخرى لإزالة الشبكة التي سقطت منذ أبريل الماضي، حيث حدد الأطباء موعدًا لإجراء عملية سادسة مطلع ديسمبر القادم حتى تأخذ الجروح ببطن محمد وقتًا للالتئام قليلًا.
محمد يشعر أنه حقل تجارب ليس إلا، فقد أجرى خمس عمليات جراحية وسيجري السادسة خلال أيام ولا يشعر بأي تحسن في صحته، كما أن حديث الأطباء يجعله في حيرةٍ من أمره، فتارةً يخبروه بأن الأمر وقف عند هذا الحد في علاجه وأن الطب لن يقدم له ما يساعده أكثر من ذلك، وآخرون يخبروه بأنه يحتاج إلى زرع شبكة بلاتينية باهظة الثمن، وغيرهم يؤكد أن أي عملية جراحية أخرى ستشكل خطرًا على حياته، لذا أصاب محمد من الألم النفسي الكثير الذي رافق ألمه الجسدي جراء الإصابة.
يتهم محمد الدولة بتدمير حياته بهذا الشكل، وتعطيل عمله ومصالحه، كما يشعر أنها المتسبب في حرمانه من أن يمارس حياته الطبيعية حتى أن اللعب مع أولاده أصبح شاقًا، فيقص محمد في حواري معه أن أحد أولاده كان يلعب معه فجلس على بطنه وقتها ومن شدة الألم الذي أحسه محمد قام بنهر ابنه وإبعاده عنه بسبب الألم الذي شعر به في بطنه، وفي نفس الوقت تألم ألمًا نفسيًا بنهره ابنه بذنب ليس ذنبه.
كذلك لم تختلف حالة الصبي أحمد فوزي محمد عويس، طالب بالصف الثاني الثانوي، يبلغ عمره 17 عامًا، والذي حرمته الأجهزة الأمنية في مصر من ممارسة رياضته المفضلة وهي كرة القدم، إذ إن أحمد يعاني من إصابة بالنخاع الشوكي أدت إلى إصابته بشللٍ رباعي، حيث أصيب الصبي رغم سنه الصغير بتهتك في النخاع الشوكي مع وجود تجمع دموي بالنخاع الشوكي وأيضًا أصيب بكسر في الفقرتين الخامسة والسادسة من العمود الفقاري، كما أنه لم يعد لديه قدرة في التحكم في قضاء حاجته، وذلك بعد إصابته برصاص قوات الأمن قبل نحو عامين.
بحسب ما أخبرتني به أسرة أحمد فقد أجرى الصبي عملية واحدة بعد إصابته لإزالة الرصاصة التي أصيب بها في رقبته في الذكرى الثالثة لثورة الخامس والعشرين من يناير، العملية التي أجراها أحمد نزعت رصاصة ميري بطول 9 ملل من رقبته، ولكن تلك العملية لم تعيد لأحمد القدرة على الحركة وممارسة أنشطته اليومية العادية، كما أنه لم يستطع الذهاب للمدرسة، واكتفى بتأدية الامتحانات في جمعية الأمل والوفاء التي كان يتلقى علاجه بها.
الأوضاع الأمنية المعقدة في مصر جعلت المؤسسات المختلفة حتى المشافي تخشى من أن تستقبل أشخاصًا لهم انتماءات سياسية معارضة للنظام ولم تبال تلك الأماكن بحالات هؤلاء الأشخاص الحرجة، فحركهم الخوف لا الإنسانية في تلك اللحظات، وكان أحمد أحد ضحايا المشافي التي تخشى البطش الأمني، إذ رفضت عدة مشافي استقباله منها مستشفى الحق بعين شمس ومستشفى النزهة الدولي والجولف الدولي والمستقبل الدولي، وكان لخطورة الإصابة التي تعرض لها الصبي عاملًا أيضًا في رفض تلك المشافي استقباله.
مستشفى واحد استقبلته وأجرت له عملية نزع الرصاصة من الرقبة، وظل أسبوعين في غرفة العناية المركزة بمستشفى الدمرادش التي استقبلته، ثم عاد للمنزل خائب الرجاء في أن يعود كما كان قبل تاريخ 25 يناير 2014 وذلك بعد أن أوصى طبيب بالمستشفى بخروجه لأن حالته لن تتحسن، إذ أخبر هذا الطبيب أسرته بأنه سيظل فاقدًا للقدرة على الحركة باقي عمره، وهو الأمر الذي تسبب في صدمة للأسرة وللصبي الصغيرأحمد.
حاولت أسرة أحمد بشتى الطرق أن تعيد إلى صغيرها حياته الطبيعية، وبعد جولة طويلة على المشافي والأطباء، استقروا على العلاج الطبيعي وجلسات الكهرباء في جمعية الوفاء والأمل بمدينة نصر بالقاهرة بعد أن تحسنت حالته قليلًا بفضلها إذ أصبح يحرك كتفيه بعد فترة علاج ليست بالقصيرة، ولم يكفوا في البحث عن علاج جديد يسرع شفاؤه ويحسن صحته لكن دون جدوى، وبعد عام من هذا العناء ذهبت الأسرة بأحمد إلى مركز آخر للتأهيل يتوافر به أجهزة ربما تساعده في تحريك باقي أعضائه، حيث إن العام الأول من رحلة العلاج لم يسفر إلا عن قدرة أحمد على تحريك الكتف واليدين دون باقي الأطراف والأصابع، كما أكسبته إحساسًا نسبيًا بمنطقة الصدر.
مركز العجوزة للتأهيل الذي نقل إليه أحمد بعد عام من العلاج كانت تكاليفه باهظة بدرجة لم تطيقها الأسرة إذ لم تقدر على تحمل مصاريف إقامته بالمركز، لذا فضلت أن تتكبد مشقة نقله ثلاث مرات أسبوعيًا إلى المركز، حيث تحسنت حركة يديه نسبيًا، بينما يأتي طبيب معالج إلى منزل أحمد ليجري له جلسة علاج مدتها ساعة خلال ثلاث أيام أخرى من الأسبوع، لكن صادفت الأسرة مشكلة أخرى وهي أنه لإيجاد نتيجة مرجوة لحالة أحمد فلا بد لهم من إجراء جلسات مدتها 4 ساعات يوميًا على الأقل، كما أخبرهم الأطباء، وهو ما يحتاج تكاليف مادية باهظة للغاية بالإضافة إلى تفرغ كامل من الأسرة.
رغم تحسن الحركة لدى أحمد نسبيًا بعد أكثر من عام ونصف من العلاج إلا أن مشكلة التبول اللاإرادي لا يزال يعاني منها ولم يستطع أطباء المسالك البولية والعلاج الطبيعي أن يساعدوا أحمد في التحكم بتلك العملية البيلوجية، كما أن أي مرض بسيط كنزلة البرد أصبحت تصيب أحمد بوعكة صحية شديدة بسبب ضعف مناعته مع إصابته، هذا بالطبع غير المشاكل النفسية التي يعانيها الصغير التي تغلبه أحيانًا.
إصابة أحمد اضطرت عائلته لتغيير مكان سكنهم إلى عمارة أخرى بنفس المنطقة – المطرية (شرقي القاهرة) – لاحتواء السكن الجديد على سلم كهربائي “أسانسير” فيسهل عليهم عملية نقل أحمد المتكررة لأكثر من ثلاث مرات أسبوعيًا، كما أن الأسرة تكبدت عناءً نفسيًا كبيرًا منذ إصابة أحمد، وإضافةً إلى ذلك تكبدها عناء مادي في الإنفاق على المشافي والأدوية إلى أن تمكنوا من نقل علاجه على نفقة التأمين الصحي خلال فترة علاجه بجمعية الوفاء والأمل بمدينة نصر.
لكن مع نقله لمركز العجوزة ذي التكاليف الباهظة باتوا وحدهم من يتحمل تكاليف المركز والمواصلات إليه ثلاث أيام بالأسبوع بالإضافة إلى تكاليف الأدوية والطبيب المعالج الذي يأتي إلى البيت باقي أيام الأسبوع لإجراء جلسات العلاج، وأيضًا تكاليف استشاري المخ والأعصاب الذي يتابع حالته، وهذا بالطبع أثر كثيرًا على الحالة المادية للأسرة، وإن أكدت الأسرة أن الحالة المادية لا تزال مستقرة إلى الآن مع تشككها من أن تتأثر مستقبلًا.
الصبي أحمد يشكو إلى الله الذين تسببوا بإصابته وإعاقة حياته بهذا الشكل، فقد أكد أن حياته كانت مقسمة بين المدرسة وقت الدراسة والعمل ومساعدة والدته في الإجازات، لكن والدته هي من باتت تساعده وتخدمه طيلة الوقت، حتى أن الصبي بات يشعر أنه عبء على أسرته، فخلال رحلة علاج الصغير لا بد من شخصٍ لحمله ونقله وملازمته دائمًا فلا يستطيع أن يقضي حاجاته بنفسه، كما لا يذهب الصبي لمدرسته ولا يقابل أصدقاءه، فلا شيء في حياته يتم بشكل طبيعي، فقط يذهب إلى المشافي والأطباء برفقة أفراد أسرته الذين يلازموه ولم يعد لهم هم في الحياة غير صحة أحمد، إذ توقفت حياتهم هم أيضًا عند تلك النقطة.
ثلاث قصص ذكرت خلال السطور السابقة أبرزت قليلًا الشعور الذي يتملك الضحايا الذين فقدوا أجزاء من أجسادهم بسبب بطش النظام بعد أن كانوا يحظون بحياة طبيعية، فالدولة المخول إليها توفير حياة آمنة وتوفير متطلبات مواطنيها الأساسية هي من تسببت في معاناتهم وتعجيزهم، كما أن السرد السابق أبرز استمرار المعاناة لهؤلاء الضحايا حتى بعد مرور فترات تجاوزت العامين على إصابتهم.
وإن كانت تلك السطور المقتضبة لا توضح بشكل عميق الأشهر التي أمضوها في العلاج والآلام الجسدية والجهد النفسي التي شعروا بها والمصروفات التي أنفقوها خلال رحلات علاجية لم تسفر عن إعادة الحياة إلى شكلها الطبيعي، كما أن تلك السطور لن تكف مطلقًا لشرح قصص آلاف الضحايا الذين تعرقلت حياتهم بسبب رصاص الأجهزة الأمنية الذي استخدمته في التظاهرات السلمية، أو بسبب أعمال التعذيب المختلفة التي تمت داخل السجون وتسببت في إصابات تعجيزية لمئات آخرين.