في وقت كان فيه الجميع ينتظر كلمة رئيس الجمهورية التونسية الباجي قايد السبسي من أجل أن يطمأنهم بشأن حرب بلاده على الإرهاب، ويعلمهم بالقرارات والإجراءات التي ستُتخذ لمشكلة الإرهاب، التي تفاقمت في المدة الأخيرة، ويرفع من معنوياتهم، أو حتى ليعلم التونسيين أن البلد في حالة حرب ضد الإرهاب، ظهر الرئيس في خطاب صادم للتونسيين تحدث في جزئه الأكبر عن المشاكل الداخلية للحزب الذي أسسه، حزب نداء تونس، والذي أوصله ليكون رئيس تونس وذلك في خرق واضح للدستور ضحى من أجله الشعب بالدم والمال والوقت، وفي استهتار كبير بالمرحلة الصعبة التي يمر بها البلد والتي تقتضي الاهتمام بالقضايا الرئيسية قبل القضايا الحزبية الثانوية مهما كان حجم الحزب أو موقعه.
في خطاب من 17 دقيقة، افتتحه الباجي قايد السبسي بالحديث عن حرب تونس ضد الإرهاب في دقيقتين فقط، ثم ليخصص ثلاث دقائق ونصف للحديث عن ضرورة توفر السلم الاجتماعي في تونس، في إشارة إلى الخلاف الواقع بين الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف حول الزيادات في أجور القطاع الخاص، ليمر في بقية وقت خطابه، والمقدر بقرابة الـ12 دقيقة، لتفسير الخلاف داخل حزب نداء تونس ثم تقديم مقترحه للتوافق في حرب الزعامات والشقوق داخل الحركة؛ والمتمثل في اختيار 13 عضوًا من الحزب لحل الخلافات وتسيير الحزب.
الباجي قايد السبسي ظهر في خطابه متناسيًا أنه رئيس الجمهورية التونسية ومركزًا كل اهتمامه على خلافات نداء تونس، ومرتديًا جلبابًا حزبيًا زاد في حيرة التونسيين حول قدرة رئيسهم ذي الـ90 عامًا في قيادتهم في هذه المرحلة الهامة والحرب المصيرية ضد آفة الإرهاب، خصوصًا بعد انتقال المجموعات المتطرفة إلى مرحلة جديدة في ترويع التونسيين تعتمد على العمليات الانتحارية، وذلك ما يدل على خطورة المرحلة، وما يفترض أن يجد فيه التونسيون في رئيسهم قائد حرب يعمل على رفع معنوياتهم وإعلامهم بالخطوات التي اتخذتها الدولة للانتصار في هذه الحرب، لكن ما كل ما تمناه التونسيون أدركوه بعد انتظارهم الطويل لخطاب الرئيس، وبعد الهالة الإعلامية الضخمة التي رافقت الإعلان عن موعده في كل وسائل الإعلام التونسية، التي تجندت العديد منها لنقله والإشارة إلى توقيت بثه أسفل الشاشات.
من المستحيل أن يكون اليوم للتونسيين الوقت للتفكير في خلافات نداء تونس وفي حرب الزعامات داخله؛ وهم الذين يعيشون فترة اجتمعت فيها كل الكوارث حولهم بداية من الإرهاب وصولًا إلى الفقر والبطالة وغياب التنمية وغيرها من المشاكل، التي كان على الرئيس أن يدرك أنها تعتبر القضايا التي تهم التونسيين الآن، والتي اُنتخب من أجلها ليجد لها الحلول، فإن كان الرئيس مدركًا أن قضايا حزبه لا تهم أبناء شعبه وتجاهل ذلك متعمدًا فإن ذلك يعد مصيبة، وإن كان لا يعلم وغير مدرك لقضايا شعبه الأساسية فإن المصيبة أعظم، بل إنه من شبه المؤكد أن الأغلبية الساحقة من التونسيين لا يعرفون حتى أصل الخلاف داخل حركة نداء تونس وغير مطلعين حتى على تلك التعابير الهلامية المستعملة من قبيل المكتب التأسيسي والمكتب التنفيذي، ويفضل أغلبهم اختصار الخلاف في الحديث عن حرب التموقع داخل الحزب أولًا ثم داخل هياكل الدولة ثانيًا.
إن المتأمل في خطاب السبسي يلاحظ أيضًا قوله إنه لم يستشر أعضاء اللجنة التي اختارها لتسيير الحزب وحل الخلاف حول موافقتهم من عدمها، وهنا نتساءل حول هذه الصلاحيات التي اعتمدها الرئيس لفرض هيئة تحل صراعات حزب استقال من رئاسته عند توليه كرسي رئاسة تونس، وتلك المعايير المعتمدة لاختيار أعضائها خاصة أن العديدين رجحوا تقارب عديد الأعضاء منها مع موقف ابن الرئيس، حافظ قايد السبسي، أحد طرفي الخلاف، ومشيرين إلى انحياز الرئيس إلى شق نجله رغم أنه تدخل في هذا الصراع لحله كطرف محايد، ضف على ذلك الموقف الذي أبداه طرف النزاع الثاني محسن مرزوق حول تأكيده، بعد وقت قصير من خطاب الرئيس، على ضرورة اتخاذ موقف جديد ومصيري، وتلميحه لرفض مقترح السبسي، وتأكيد العديدين على أن مرزوق بصدد الانشقاق نهائيًا عن نداء تونس وتكوين حزبه الجديد، وإن صح ذلك فهو تأكيد على رفضه لمقترح الرئيس وإدراكه بانحياز السبسي لابنه.
ضف على ذلك العبارة المستعملة من قِبل الباجي قايد السبسي في خطابه حول تأكيده على شرعية الهيئة التأسيسية وإشارته إلى أن انعقادها سيكون في ظرف شهر فقط، في مقابل اعتماده على تعبير “ما يسمى بالمجلس التنفيذي”، والذي يدعو محسن مرزوق لانعقاده وتأكيده على أن ذلك سيتطلب أكثر من العام، وفي ذلك دلالة واضحة على على دعمه غير المعلن لمقترح حافظ قايد السبسي، فهل يكون الرئيس بعد أن انحاز لمشاكل حزبه في الخطاب على مشاكل التونسيين قد قرر أيضًا أن ينحاز لشق ابنه أو الوريث المُنتظر للحكم كما سماه العديدون.
وبعد 4 سنوات من الثورة لنا أن نعود قليلًا إلى الوراء ونتذكر ما حدث إبان حكم الرئيس السابق المنصف المرزوقي؛ عندما تجزأ حزبه إلى 4 أطراف متنافرة في الصراع على خلافة المرزوقي في الحزب وتكوين أحزاب جديدة، وهنا لا نتذكر أن المرزوقي تحدث في مشاكل حزبه في أي من خطاباته أو تقديمه لأي مبادرة لحل الخلافات، على الأقل علانية، ويمكن أن نتوقع رد فعل وسائل الإعلام التونسية لو وقع المرزوقي في ذلك المحظور خصوصًا مع عدائها الواضح له، وهل كانت ستتعامل معه بهذا اللطف مثلما تعاملت مع مبادرة السبسي اليوم، وتركيزها المتعمد على المبادرة في حد ذاتها دون التركيز على مخالفة الرئيس للدستور.