هذا المقال لا يوجد فيه أي نوع من الاستهزاء بالقدرة الإلهية على إحداث تغيير مفاجئ لمجرى الأحداث وتعديل كفتها لصالح خير البشرية، ولكن التجارب البشرية والتاريخ علمانا أن الله ينظر لأولئك العاملين والمجتهدين في سبيل حل المشاكل وليس المنتظرين لمعجزات ولى زمنها.
المقدمة هذه أنتجتها متطلبات الهروب من نقد عنوان المقال دون الإشارة لصلب الموضوع والذي نحن هنا من أجله، من أجل إثبات أن المؤتمر الوطني يركن لتأجيل الأحداث غير ذات الأهمية القصوى في اللحظة، والتي تتراكم بفعل الزمن لتصبح أزمات ويرجع المؤتمر الوطني لسياسته القائمة على الحلول الوقتية لسد ثغرة ولو لبعض حين.
القاصي والداني يعلم تمامًا مقدار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي يمر بها السودان حاليًا، في ظل الرؤية الواحدة الشمولية وانسداد الأفق لأي حل سياسي لمناطق النزاع والحروب الأهلية التي ما إن تخمد في إقليم حتى تستعر في إقليم آخر وهكذا دواليك، وهو من إفرازات السياسات العقيمة التي أنتجت الأزمة ونفس الرجال، فكيف يعقل من سبب أزمة مفتعلة أن يقوم بحلها بكل بساطة وسذاجة المعارضة والشعب والمجتمع الدولي؟
إن الدعوة لإسقاط النظام تحولت من مجرد مطلب لضرورة حتمية للمحافظة على بقية النسيج الاجتماعي والاقتصادي للسودان، في ظل قرارات تهدد بنسف الوجود السوداني من خلال الأرقام المخيفة للاجئين في دول الجوار والنازحين، ارتفاع نسبة البطالة والأيدز، والعزوف عن الزواج بسبب الوضع الاقتصادي، وانتشار ظواهر سالبة مثل اغتصاب الأطفال وتجارة الأعضاء بصورة مكثفة.
ما لا يساعد الجماهير على الانتفاضة على النظام هو الدور المتعاظم الذي تقوم به الأحزاب السياسية والحركات المسلحة في تثبيط هممها، من خلال المناورات التي تقوم بها كل فترة وفترة، إما بالتفاوض حول مقاعد في الحكومة أو مفاوضات لا طائل منها، والداهية الأمر أن جميع المفاوضات لم تكن تشتمل على مراجعات قوانين مثل قانون الإجراءات الجنائية، قانون النظام العام، القانون الجنائي، وقانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني؛ الذي ينتهك حقوق المواطن العادي وكذلك الصحافة بصورة كبيرة من خلال اعتقال الصحفيين ومصادرة الصحف بعد الطبع، مما يسبب خسائر فادحة لأصحابها، وأيضًا إيقاف الصحفيين عن العمل دون الرجوع للجهة المخولة بذلك ألا وهي مجلس الصحافة والمطبوعات، وكذلك نفس الأمر مع الأطباء والمحاميين في حالة الاعتراض أو الاحتجاج على ظروف بيئة العمل الطاردة التي أدت إلى هجرة أعداد كبيرة من أصحاب الكفاءات العلمية في كافة المجالات.
لا يمكن بأي حال القبول باستمرار نظام شمولي بهذه الصورة الذي قضى على الخدمة المدنية بكافة أشكالها، وانتشار الفساد في كافة مفاصل الدولة بصورة جعلت رئيس لجنة مكافحة الفساد التي كونها الرئيس بنفسه يخرج للعلن أن هنالك جهات رفضت المراجعة المالية لها، الأدهى والأمر أن نظام الإنقاذ حاول تفكيك أقوى نقابتين للعمال ألا وهي السكة الحديد ومشروع الجزيرة، لكنه قضى على الأخضر واليابس بالقضاء على المشروعين اللذين كانا قوام الاقتصاد السوداني قبل ظهور البترول.
و أخيرًا بعد انفصال الجنوب وتدهور الاقتصاد السوداني الذي أدى لوصول سعر الدولار اليوم لأكثر من 10 جنيهات في السوق الأسود مع انعدامه في الصرافات والبنوك، تحاول الإنقاذ بشتى السبل رقع هذه الفجوة من خلال قروض دولية واستثمارات وتحالفات مع كل الأطراف، تارة مع إيران واستخدام السودان كممر للأسلحة المتجهة إلى فلسطين، وهو ما أدى إلى تدخل إسرائيل وقصف قلب العاصمة وبورتسودان المطلة على البحر الأحمر من شرق البلاد، وتارة يتحالف مع السعودية من خلال حرب اليمن، وتحالف في ليبيا ضد النظام الانقلابي في مصر الذي يدعم مجموعات أخرى، كل هذه الحلول لم تنفع الحكومة بسبب الإهمال المتعمد في البنية التحتية والموارد البشرية والاقتصادية، وإقامة تحالفات مع دول الجوار بدل من الحروب المستعرة مع كل الأطراف، الأمر الذي أدى لاحتلال إثيوبيا منطقة الفشقة ومصر منطقة شلاتين وحلايب ودخول في حرب مع دولة الجنوب المنفصلة حديثًا.
الدعوة التي أطلقها النظام مؤخرًا لكافة الأحزاب للمشاركة في حوار وطني جامع ما هي إلا مطية يحاول المؤتمر الوطني كسب مزيد من الوقت ومن أجل أخذ قروض من البنك الدولي، الذي يشترط التقشف الحكومي ورفع الدعم الكامل عن المحروقات وخلافه وحلول سياسية تشمل كل الأطراف، رفع الدعم الذي فعله النظام في سبتمبر من عام 2013 أدى لخروج احتجاجات قوية قابلها النظام بالقمع، والذي أدى لسقوط مئات الشهداء ولن ينسى الشعب أبناءه الذين ماتوا ولن ينسوا مساومة النظام لهم بقبول الدية بعد نكرانه لقتلهم، ولن ينسى تخاذل الأحزاب الواضح الذي أدى لخروج معظم الشباب من هذه الأحزاب المرتزقة.