ما بين عامي 1568 و1917 خاض الأتراك والروس قرابة 17 حربًا، ومع مرور حوالي 100 عام على آخر حرب بين وريثي الاتحاد السوفيتي والدولة العثمانية، وبالرغم من كل المحاولات التي بُذلت لتهدئة الأوضاع عبر الجهود الدبلوماسية والاقتصادية؛ التي كان لملف الطاقة فيها الكلمة الأبرز في السير نحو علاقات إستراتيجية، توترت العلاقات من جديد في شهر نوفمبر 2015 بعد أن أسقطت طائرات تركية طائرة سوخوي روسية، ادعى الأتراك أنها اخترقت المجال الجوي التركي ولم تأخذ تحذيرات الطائرات التركية على محمل الجد.
في الحقيقة لم تكن هذه هي بداية التوتر، وليس مؤكدًا من هو الطرف الذي يسعى لتخريب العلاقة مع الآخر، هل هم الروس الذين أصروا على اختراق الأجواء التركية بعد أن اخترقوها مرتين في شهر أكتوبر الماضي، كانت أنقرة تتحضر فيهما للانتخابات البرلمانية، وبعد أن قصفوا مناطق التركمان في سوريا منذ عدة أسابيع بحجة قصف تنظيم داعش، أم أن الأتراك الذين يرنون إلى الصعود بين القوى العالمية أرادوا إثبات سيادتهم ولو على حساب علاقتهم مع روسيا، أم أن كلا الطرفين كان لا يتوقع من الآخر هذا السلوك، بمعنى أن تركيا لم تتوقع اختراق أجوائها فيما لم تتوقع روسيا إسقاط طائرتها.
على كل حال لم تحدث حروب بين روسيا وتركيا منذ الحرب العالمية الأولى ولكن تركيا التي انضمت لحلف الناتو في عام 1952 كانت جزءًا من المعسكر الغربي في الحرب الباردة، وقد ظل هذا المعسكر محافظًا على سياسة تحجيم موسكو وهكذا اعتبرتها روسيا أيضًا.
ومع مجيء حزب العدالة تحسنت العلاقات قليلًا بين روسيا وتركيا، وقد نُقل عن بوتين انبهاره بموقف البرلمان التركي في عهد العدالة والتنمية في عام 2003؛ عندما رفض السماح للطائرات الأمريكية بضرب العراق من الأجواء التركية بل عد تلك اللحظة بداية للتحول عن الغرب، ومرورًا بالحياد التركي تجاه غزو الروس لجورجيا في 2008، ووصولًا إلى رفض تركيا المشاركة في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بعد احتلال القرم، بالرغم من الرفض التركي لاحتلال القرم التي يعيش فيها عدد كبير من الأتراك، كان هذا دليلًا على حرص الأتراك على استمرار العلاقات بالرغم من اختلافها حول ملفات عديدة منها الأزمة السورية والملف القبرصي والأرمني وغيره.
ومع ما سبق حرص الطرفان على دعوة كل منهما للآخر للحوار حول القضايا الخلافية ولكن كان كل طرف يدعو الآخر لمراجعة سياساته.
مع الأزمة الأخيرة التي ظهرت للسطح مع إسقاط الطائرة، تناول كثيرون العلاقات الاقتصادية بين البلدين في إطار تهديد روسي لتركيا؛ حيث يستورد الأتراك حوالي 50% من احتياجاتهم من الغاز من روسيا ويصل إلى تركيا سنويًا حوالي 5 مليون سائح، كما وصل التبادل التجاري إلى 33 مليار دولار فيما وضع الهدف ليصبح 100 مليار دولار في 2020.
وفي هذا السياق فإن البعض يبالغ في تصور مستقبل العلاقات الروسية التركية بعد حادثة الطائرة حيث إن بعضًا من التصعيد الإعلامي الذي كان موجهًا للرأي العام التركي والروسي من قِبل زعماء البلدين فُهِم على أنه تهديد للدولة الأخرى، فكما ذكرنا هناك أزمات كثيرة بين البلدين لكن البلدين أدارا العلاقات بينهما وإلى حد الآن لم تُقطع العلاقات ولم يُسحب السفراء.
ولا يعني هذا أننا نقول بعدم إمكانية حدوث تطورات كبيرة للأزمة فهذا يبقى احتمالًا، وفي حال حدوث تطور للأزمة بين روسيا وتركيا فإن هذا التطور لن يكون على الأغلب من الطرف التركي الذي يسعى لتهدئة التوتر حاليًا (كما جرت عليه العادة في أي أزمة تواجهه، فهو يتجنب التوتر والتصعيد ويسعى إلى الحل) بل من الطرف الروسي ولا يعتقد أيضًا أنه سيكون في المجال العسكري المباشر، بل ربما في المجال الاقتصادي والأمني، وهذا الأمر سيدفع تركيا للتقارب أكثر من المعسكر الغربي الناتو والاتحاد الأوروبي فيما سيدفعها للعمل على تقوية علاقاتها مع دول المنطقة مثل السعودية وقطر وهما يعتبران أحد أهم مصادر الطاقة العالمية، إضافة إلى زيادة دعم المعارضة السورية.
في المجال المنظور ستسعى تركيا بجدية إلى إنهاء هذه الأزمة لكن علينا أن نتذكر أن هذه الأزمة هي عرض للأزمة الأكبر، وهي الأزمة السورية، وأن أي خلاف قادم أو متفاقم للخلافات الحالية سيعيد حادثة إسقاط الطائرة إلى الواجهة من جديد، لكن حاليًا لا يبدو أن هناك تخوف كبير لدى الأتراك من تبعات الحادثة في إطارها الحالي لكن التخوف المستقبلي في رأيي هو من التوافق الروسي الغربي المشترك تجاه قضايا المنطقة دون أخذ الموقف التركي بعين الاعتبار، وهو ما يحتاج الأتراك للاستعداد له ولسيناريوهاته المحتملة.
وكما بدأنا هذا المقال بإشارة تاريخية نختمه بذلك أيضًا فقد أوقفت الفوضى التي أحدثتها الثورة البلشفية في 1917 التقدم الروسي في جبهة القوقاز ضد الدولة العثمانية قبل 100 سنة، فما الذي قد يوقف التوتر الحالي في العلاقات وفي أي ساحة قد يحدث؟!