كنت قد كتبت قبل ما يقرب من عامين أنه “ليس أمامي سوى الاعتراف للتكنولوجيا بالانتصار الساحق، فإلى وقت قريب، منذ أقل من عام على ما أذكر، كان إذا أعجبني كتاب وقد اطلعت عليه في نسخة إلكترونية وددت من كل قلبي اقتناء نسخة ورقية منه، واليوم باقتنائي جهاز آي باد، أود لو أن مكتبتي الورقية كلها تتحول إلى إلكترونية.. يا لسطوة التكنولوجيا!”.
أعترف أنني ظللت أسيرة هذا الجهاز منذ اشتريته؛ فأصبحت أبحث عن نسخ إلكترونية للكتب التي أثرت فيّ أو الكتب التي أرغب في قراءتها، لا نفورًا من القراءة على الصفحات المطبوعة ولكن لأن جهاز الآي باد مناسب لي مع ظروف عملي الذي يمتد لساعات طويلة مع الوقت الذي أستغرقه في المواصلات ذهابًا وإيابًا، وإرهاقي الشديد عند الرجوع إلى المنزل؛ فهو يتيح لي مكتبة متنقلة استجمعت مفرداتها على ذوقي الخاص مما يتيح لي القراءة في كل وقت، فأنا من أولئك الذين يعتبرون محتويات الكتب أشبه بقطع “المكعبات” التي من شأن قارئها أن يجتهد ليرتبها، وبالتالي يصل إلى وجهة نظره الخاصة، فالعيش مع مكتبة متنقلة هو متعة العيش بالنسبة لي، فأربط هذا الجزء من الكتاب بذاك الجزء من كتاب غيره، بذلك الجزء من كتاب ثالث وهكذا.
فيتيح لي الآي باد القراءة في كل وقت؛ في المواصلات، في فترات الراحة إن اُتيحت في مكتبي في العمل لاستغيث برأي كاتب يفسر لي أحوال البشر من حولي فأحتمل الظروف المحيطة، وبعد رجوعي من العمل واسترخائي على فراشي مع خفوت إضاءة غرفتي التي ينيرها ضوء الآي باد بعدما أطفأت ضوءها المعتاد الذي يزعجني في الساعات الأخيرة من يومي، يتوافر لي جو من الهدوء تغشاه السكينة التي أتشوق إليها بعد يوم عمل صاخب.
وبذلك ساعدني الآي باد في التخلص من إزعاج ضوء حجرتي اللازم لقراءة كتاب ورقي حتى وإن كان شغفي بمحتوى الكتاب الورقي يطغى على إزعاج الإضاءة، فبعد انتهاء جرعتي من الكتاب تخر قواي على فراشي، وتضعف فأنهض متثاقلة لإطفاء ضوء حجرتي، وبذلك وفر لي الآي باد العديد من الإمكانات التي لولاها لتقلص نشاط القراءة في حياتي، وقد أغراني بإمكاناته في إقناع نفسي بالتنازل عن صفة راسخة في ذهني منذ الصغر وهي ما يُعرف بالذاكرة البصرية؛ فكنت عندما أستشهد برأي كاتب أتذكر ما قاله إذا كان ورد في الصفحة اليمنى أم اليسرى، في أول الصفحة أم في وسطها أم في آخرها، كما أغراني الآي باد بإمكاناته في التظليل وكتابة الملحوظات والأفكار ووضع العلامات، فخضعت له واتخذته رفيقًا ملازمًا لي في كل وقت، وفي كل مكان.
وذات ليلة بعد مرور عدة أشهر على صداقة الآي باد، وفي الوقت الذي انشغل فيه عقلي بتكوين رأي على طريقة “المكعبات” التي أوردتها آنفًا، تذكرت رأيًا لكاتب قد تعرفت إلى أفكاره من نسخة ورقية فأردت أن أتحقق مما قاله بالضبط فدخلت إلى مكتبتي الورقية التي ساعدتني أمي في تخصيص مكان لها بـ “تقفيل” بلكونة في منزلنا، بعدما تكاثرت كتبي في حجرتي التي أشارك فيها أخواتي قبل زواجهن، فقد كنت أُعد من الجائرين على حقوقهن في الحجرة إذا طُبقت العدالة في التوزيع، دخلت مكتبتي الورقية لأبحث عن الكتاب الذي أريده فإذا بي أنصرف عن هدفي إلى سماع صوت عتاب كتبي لي بسبب بعدي عنها، اخترق صوت عتابها أذني فانتبهت لافتقادي لها وافتقاد حبر الكلام على صفحاتها للتواصل مع عينيَّ وافتقاد أوراق الصفحات ملامسة أصابعي، كادت دموعي تذرف من هذا الشعور بلا مبالغة.
كيف لا، وهي كتبي التي اخترتها من دون غيرها؟! كيف لا، وهي كتبي التي ادخرت جُل مصروف جيبي منذ اليوم الأول من التحاقي بالجامعة لأشتريها، وإن تعذرت في ثمن كتاب بعينه أخبرت أمي لتساعدني في شرائه؟! كيف لا، وهي كتبي التي تمثل شموعًا مضيئة لي في طريق مظلم قد يقدِّر لي الله العبور منه؟! كيف لا، وهي كتبي التي تكسر جمود عقلي إذا تشبث بغير الله؟! كيف لا، وهي كتبي التي أتدرج عليها لأصل إلى الحقيقة وأتعرف إليها؟! كيف لا، وهي كتبي التي تساعدني في اكتشاف نفسي والتعرف إليها؟! فعندما يكتشف الإنسان حقيقة نفسه بنفسه، هيهات هيهات أن يضل الطريق، كيف لا، وهي كتبي التي تساعدني في التعبير عما أشعر به؟! كيف لا، وهي كتبي التي تصحح فهمي إذا أسأت الفهم؟! كيف لا، وهي كتبي التي أتوكأ عليها في ضعفي؟! كيف لا، وهي كتبي التي تساعدني في اجتياز محني؟! كيف لا، وهي كتبي التي تساعدني على رؤية ما وراء ما تراه عيني؟! كيف لا، وهي كتبي التي أعبد بها الله على علم؟!
أدركت بعد هذا الحوار الصامت الذي دار بيني وبين كتبي وجوب التصالح بيننا فوددت تقبيل كل كتاب منها، لكنني أدركت أنها لا تعي هذه اللغة في التعامل، لكنَ وسيلة المصالحة التي تسعدها هي التواصل بين عينيَّ، وحبر كلماتها وملامسة أصابعي لأوراقها.
وقد كان.. نعم، لقد تصالحت أنا وكتبي الورقية، وإن كلًّفني هذا الانزعاج بضوء الحجرة اللازم للقراءة في الساعات الأخيرة من يومي ونهوضي من فراشي متثاقلة بعد تناول جرعتي منها لإطفاء مصباح الحجرة.
وبعدما تم التصالح نمى إلى علمي أن ثمة مُخترَعًا في السوق يُعرف بكشاف القراءة “Book light” ، فعزز من المصالحة فالتقيت أحبائي من جديد بكل لهفة وشوق مع الرجوع إلى الكتب الإلكترونية متى كانت الحاجة.
وحتى لا أطيل عليك سيدي القارئ لا بد أن أوافيك بخلاصة التجربة التي تتلخص في أنني قد اكتسبت مرونة في عقلي تتيح لي الانتفاع والاستمتاع بالكتب الإلكترونية جنبًا إلى جنب مع الكتب الورقية، وكله في صالح الميزانية.