أنهى رجب طيب أردوغان مؤتمر المناخ في باريس وتوجه إلى دولة قطر مساء الثلاثاء 1 ديسمبر ليلتقي نظيره القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتأتي الزيارة لتجسيد اتفاقية المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي بين تركيا وقطر، المؤسس في سبتمبر عام 2014 وتجسيد التعاون الثنائي بين البلدين من أجل تحقيق خطوات على طريق التكامل الاقتصادي بين البلدين،ومن المتوقع أن تشهد الزيارة توقيع 13 اتفاقية في مجالات الأمن والتعاون الاقتصادي والمالي والتعليم والصحافة والإعلام والطاقة.
وحتى اللحظة لم تقرر موسكو قطع إمدادات الغاز الطبيعي عن تركيا وإيقاف التفاوض بشأن مشروع السيل التركي وبناء المحطات الكهروذرية في جنوب مرسين من ضمن الإجراءات الاقتصادية العقابية على أنقرة بسبب إسقاطها للمقاتلة الروسية، وفي آخر تصعيد لها في اليوم الأول من شهر ديسمبر قررت موسكو وقف عمل اللجنة الحكومية الروسية التركية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، ويتضمن القرار وقف استيراد الخضراوات والفواكه ولحوم الدواجن والملح من تركيا ابتداءً من العام المقبل، بالإضافة إلى وقف كامل لرحلات الطيران السياحية إلى تركيا.
تلعب روسيا دورًا جيوبوليتيكيًا في مجال الطاقة في مجالها الحيوي فيما يخص الإنتاج وطرق الإمداد؛ حيث تعتبر المصدر الأكبر للطاقة من النفط والغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي؛ ففي عام 2012 كانت روسيا مصدر ما نسبته 25% من واردات الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، وقد رأى صنّاع السياسة الأروبيين أنّ اعتمادهم الأكبر على روسيا في مصادر الطاقة أمر يدعو لعدم الاستقرار في ظل الخلاف الظاهر في أغلب الملفات السياسية، وفي ورقة خضراء أصدرتها المفوضية الأوروبية في عام 2000 لفتت الأنظار إلى المستويات المرتفعة لاعتماد دول الاتحاد الأوروبي على واردات الغاز، وقد أدت الصدامات الروسية الأوكرانية التي دارت في عام 2006 ثم في 2009 وآخرها في عام 2014 والتي أدت إلى انقطاع في إمداد أوروبا بالغاز الروسي كون أوكرانيا هي ممر أنابيب الغاز إليها، إلى تسليط الضوء أكثر من قِبل دول الاتحاد على هذه القضية.
تركيا هي الأخرى تعتمد على إمدادات الغاز الروسية بنسب مرتفعة حيث تستهلك تركيا من إمدادت الغاز الروسية نسبة 55%، تذهب لاستهلاك البلاد المحلي، وتستورد تركيا الغاز الروسي منذ عام 1987 وحتى اليوم بلغت نسبة الغاز المستورد 26 مليار مكعب من الحجم الإجمالي للغاز الروسي، وهذا ما أثار موجة مخاوف لدى الأتراك بعد تزايد وتيرة الأزمة بين البلدين خشية قطع روسيا الغاز عن تركيا، وفورًا جاءت تصريحات وزير الطاقة التركي برات البيرك بأن “تركيا ستجيد التصرف في إيجاد مصادر بديلة”.
وقعت تركيا في معادلة أحادية المصدر، مثل المثل الشعبي “لا تضع كل بيضك في سلة واحدة”، وهذا دعاها لإعادة التفكير بتنويع مصادرها الطاقوية على الرغم أن المصدر الروسي كان الأكثر جاذبية لتركيا لأسباب جغرافية تتعلق بالقرب وأسباب اقتصادية تتعلق بالتكلفة وأخرى إستراتيجية تتعلق بالتعان مع الروس لإنشاء خط “ترك ستريم” الذي سيوصل الغاز إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.
من الناحية القانونية لا يمكن لروسيا قطع الغاز عن تركيا، فحسب الاتفاقية المُبرمة بين البلدين التي توضّح أن اندلاع حرب بين الطرفين هو السبب القاهر الوحيد الذي يُمكّن روسيا من قطع إمدادات الغاز عن تركيا، وحتى هذه اللحظة لا تزال الأزمة في حدودها الدنيا وتعرّضت لإجراءات اقتصادية عقابية من قِبل الجانب الروسي ولم تصل إلى قطع العلاقات الدوبلوماسية وسحب السفراء؛ ما يُدلل على إمكانية لملمة أدوات النزاع وحلّها بطرق سياسية بين الطرفين، كما أفرد رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو أن العلاقات التركية الروسية “تمر بمرحلة حساسة وعلى الطرفين إنهاء الأزمة دون ضرر بالعلاقات بين الدولتين”.
وفي حال تعنت روسيا وقطع الغاز عن تركيا فإن الأخيرة جهزت خططًا لتدارك الأزمة خصوصًا والبلاد مقبلة على فصل الشتاء حيال ذلك فإن تركيا تستخدم 48% من الغاز الذي تستورده في إنتاج الطاقة الكهربائية علمًا أن محطات توليد الطاقة الكهربائية والآلات تعمل على المحروقات النفطية أيضًا، و25% منه في القطاع الصناعي، أما الغاز الذي يُستخدم في مجال التدفئة فتبلغ نسبته 20% فقط؛ ما يسمح باستبدال هذه النسبة بغاز بديل من دول أخرى في حال قطع الغاز الروسي مع زيادة في الصرف الحكومي على الغاز الجديد بسبب الفارق في السعر وتكاليف الشحن والنقل.
من المرجح اليوم أن تقوم تركيا بإعادة سياستها الطاقوية كنتيجة للأزمة الحاصلة مع روسيا وفي هذا الإطار جاءت زيارة رئيس الدولة رجب طيب أردوغان إلى قطر مساء الثلاثاء الأول من ديسمبر، وسيحتل ملف الطاقة حيّزً كبيرًا في جدول الزيارة ، فتركيا تنظر إلى قطر اليوم كمورد مهم لتنويع واردات الطاقة لديها والمساهمة في تحقيق أمن الطاقة في البلاد من خلال زيادة وارداتها من الغاز المسال من قطر، وبالفعل تستعد تركيا لتقليص وارداتها من الغاز المسال من روسيا بمقدار الربع العام القادم وتعويضها من قطر حسب رويترز وخلال الزيارة تم التباحث بشأن استثمار تخزين الغاز القطري في تركيا علماً أنّه تم توقيع اتفاقية بين البلدين العام الماضي لتوريد 1.2 مليار متر مكعب من الغاز المسال القطري في تسع دفعات لشتاء 2014 و2015.
تأتي المشروعات الإستراتيجية (السيل التركي) والمحطة الكهرذرية لتحاكي لغة المصالح الاقتصادية بعيدًا عن السياسة وما يلتف لفيفها من أزمة بين البلدين، وتبقى هذه المشاريع محل ترقب بين الطرفين فيما يتعلق بتعليق الشروع بالعمل بها أم لا.
يشار أن مشروع السيل التركي يقسم إلى مرحلتين الأولى سعتها 15.75 مليار متر مكعب ستغذي تركيا وحدها، والمرحلة الثانية بنفس السعة وتخدّم جنوب شرق أوروبا، ويصل مجموع طول خط الأنابيب 1100 كيلومتر، يبلغ طوله في الأراضي الروسية 660 كيلومترًا وفي الأراضي التركية 250 كيلومترًا، والجدير بالذكر أنّ المشروع تم تأجيل البت به بسبب الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تركيا، لذلك بقي المشروع على شكل مسودة اتفاق تم إرسالها إلى أنقرة حسب وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك “وأنّ الكرة باتت في ملعب الجانب التركي”، علمًا أنّ وزير التنمية الاقتصادية الروسي أليكسي قال في 1 ديسمبر إنّ موسكو لم تعلق عملية تنفيذ مشروعي إقامة السيل التركي وبناء محطة “أك كويو” الكهرذرية”.
تدرك تركيا أهمية مشروع السيل التركي الذي سيحولها إلى مركز إقليمي لتوزيع الطاقة والذي سيوفر على تركيا مليار دولار من فاتورة الغاز الخاصة بها ويوفر آلاف الوظائف في سوق العمالة التركي، كما أن لدى تركيا مرونة في المفاوضة في تقرير الموافقة على خط السيل بوجود الخط القطري البديل المطروح الآن في الأروقة ما يجعله ورقة ضغط اقتصادية بيد تركيا ضد روسيا التي تتبجح بعقوباتها الاقتصادية ضد أنقرة، وبنفس الوقت تدرك روسيا أهمية الموقع الجيوإستراتيجي الذي تقع فيه تركيا والذي يسمح لها بالتخلي عن خطوط نقل الغاز الممتدة من أوكرانيا واستبدالها بأنابيب تنطلق من مجمع توزيع ضخم في الأراضي التركية إلى اليونان وأوروبا، بالإضافة إلى ما سيوفره المشروع من فرص عمل للسوق الروسية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها روسيا من انخفاضات حادّة في أسعار النفط والغاز في السوق العالمية بحكم أن الاقتصاد الروسي يعتمد في 90% على تصدير الغاز، لذلك من المستبعد إلغاء المشروع من قِبل الطرفين في جو يعلو فيه صوت المصلحة الاقتصادية على المصلحة السياسية.