الألعاب القتالية الفردية
منذ القدم، ارتبطت الرياضات القتالية الفردية ببني البشر، فكانت غريزة البقاء تفرض على إنسان العصر الحجري استعمال قواه العضلية لحماية نفسه ومن معه من تعدي الأعداء، إنسًا كانوا أم وحوشًا، لذا نجد معظم الجماعات البشرية التي كونت سلسلة الحضارة الإنسانية تولي هذا الموضوع أشد الاهتمام، فتجد الأعلام قد نصبت والساحات قد هُيئت لاستقبال الأبطال المتبارين، الذين أمضوا شهورًا في تقوية بنيانهم الجسمي وتطوير مهاراتهم القتالية، بغية التفوق، ليس فقط على منافسيهم في الاختبارات والمهرجانات، بل حتى في الحروب الضروس والمعارك الطاحنة، التي كانت قوتهم العضلية ومهاراتهم القتالية تشكل جل رأسمالهم فيها.
ومع دوران عجلة العلوم، وانفتاح آفاق جديدة من الاختراعات والاكتشافات، ولا سيما بعد اختراع البارود، قلت الحاجة لاستعمال القوى العضلية حتى انعدمت تقريبًا، في ظل وجود ما يغني عنها، سواءً للدفاع عن النفس أو حتى للاعتداء، فالقوي والضعيف يستويان أمام طلقة مسدس أو شظايا قنبلة، وعليه فقد تراجع الاهتمام بتطوير القوى العضلية والمهارات القتالية اليدوية، واقتصر على من يفرض عليهم عملهم ذلك كالرياضيين ورجال الأمن والمقاتلين، باستثناء بعض الشعوب التي حافظت على اهتمامها بها كنوع من التراث المرتبط بأساطيرها القديمة، وأبرز تلك الشعوب شعوب شرق القارة الأسيوية، التي لم تكتف بالحفاظ على تراثها من الألعاب القتالية، بل قامت بتطويرها وسن القوانين الناظمة لها، وتسميتها بأسماء مشتقة من لغاتها، فالكاراتيه مشتقة من اللغة اليابانية وتعني (اليد الخالية)، وكذلك الجودو مشتقة من اليابانية وتعني (الطريقة السلسة)، والتايكواندو مشتقة من اللغة الكورية وتعني (أسلوب القدم واليد)، والكونغ فو مشتقة من اللغة الصينية وتعني (المهارة المتفوقة).
أبو الكيوكوشن كاي
صورة تعبر عن تاريخ كيوكوشن كاي بجانب مؤسسها ماس أوياما
في بدايات القرن العشرين، جاء من مدينة أوكيناوا أقصى جنوب اليابان إلى العاصمة طوكيو رجل يدعى “غيشين فوناكوشي”، حاملًا معه الكثير من مهارات وأسرار الفنون القتالية، ليبدأ بنشر رياضة الكاراتيه بشكلها ونظامها الحاليين، ومن تلاميذ هذا الأستاذ الكبير كان الفتى “ماس أوياما”، الذي ولد في إحدى قرى كوريا الجنوبية عام 1923، وجاء إلى العاصمة اليابانية وهو ابن 13 عامًا بغية الالتحاق بمدرسة الطيران العسكرية، حيث تعلم مبادئ الجودو والملاكمة، قبل أن يلتحق بمدرسة فوناكوشي لتعليم الفنون القتالية العسكرية وهو ابن 15 عامًا، لينكب على التدريبات بشكل متواصل فيتقدم سريعًا ليبلغ درجة الدان (المستوى) الرابع في الكاراتيه وهو لا يزال في الـ20، ويلتحق بالجيش الإمبراطوري الياباني، دون أن يمنعه ذلك من متابعة سعيه الدؤوب لتعلم جميع أنواع الفنون القتالية، حيث أتقن الجودو ووصل إلى درجة الدان الرابع فيها أيضًا، قبل أن تلقي هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية بأوزارها الثقيلة على معنويات الشاب المقاتل، فيجد في العزلة والانفراد ملاذًا يقيه شر الانهيار النفسي، آخذًا بنصيحة سوناي تشو أحد أساتذته المقربين، حيث اتخذ من نقطة جبلية بعيدة في منطقة شيبا مستقرًا له ومكانًا للتدريب المنفرد، الذي تعلم من خلاله كيفية الانتصار على الإرهاق الذهني فضلًا عن تطوير مهاراته القتالية الذاتية.
ولبث أوياما في عزلته مدة عام وشهرين، عاد بعدها إلى طوكيو لمتابعة تدريبه وتطوير مهاراته، فبدأ عام 1950 بمنازلات فريدة، كان خصومه فيها من الثيران، بغية اختبار قوته من جهة، ولفت أنظار الناس إليه من جهة أخرى، فكان له ما أراد حين قاتل 52 ثورًا، فنجح في قتل 3 منها بضربات مباشرة من يده، فيما اقتلع قرون الثيران الـ49 الباقية بواسطة يده المجردة، لتطبق شهرته الآفاق، ويفد إليه الطلاب من كل فج عميق لينهلوا منه أسرار قوته الهائلة، فيفتتح ناديًا في طوكيو لتعليم الفنون القتالية عام 1953، قبل أن يصدر كتابًا بعنوان: “ماهي الكاراتيه؟” عام 1958 يشرح من خلاله طريقة القتال الخاصة به، والتي كونها من جميع الفنون القتالية التي مارسها، واختار لها اسم “الكيوكوشن” وتعني باليابانية (الحقيقة النهائية)، أما اللاحقة (كاي) فأضيفت لاحقًا لتفيد ارتباطها بالكاراتيه.
محطات من تاريخ الكيوكوشن وأبطالها
أبرز أساطير كيوكوشن كاي عبر التاريخ
عام 1964، افتتح رسميًا في العاصمة اليابانية طوكيو، المركز الرئيسي العالمي لممارسة الكيوكوشن برئاسة أوياما، الذي قام بإرسال بعض من تلامذته المتفوقين لنشر هذه اللعبة عبر العالم، مما أسفر عن تنظيم أول بطولة عالمية خاصة بالكيوكوشن عام 1975، تحت مسمى “الدوري العالمي للكيوكوشن”، والذي مازال يقام بانتظام كل 4 أعوام منذ ذلك الحين.
عام 1994 توفي ماس أوياما مؤسس الكيوكوشن عن 71 عامًا، وبوفاته قام نزاع على وراثة منظمة الكيوكوشن العالمية من بعده من قِبل أبنائه وبعض تلاميذه، انتهى بانقسام المنظمة إلى عدة مجموعات ومنظمات متفرقة، أصبح لها بطولاتها المنفصلة بعد أن تبنى منظموها قوانين جديدة تختلف عن تلك التي وضعها أوياما، ولكن نضال ابنته “كورستينا أوياما” في أروقة المحاكم بمساندة بعض من تلامذته المخلصين، أسفر عن اعتماد المنظمة العالمية للكاراتيه للمجموعة التي ترأسها ابنة أوياما، التي تعهدت بالحفاظ على إرث أبيها دون تحريف، كممثل رئيسي لهذه اللعبة عبر العالم.
يعتبر ماكوتو ناكامورا البطل الوحيد الذي نجح في الفوز ببطولة دوريين عالميين للكيوكوشن، وذلك عامي 1979 و1984 في البطولتين الثانية والثالثة، أما لقب البطولة الأولى عام 1975، فقد فاز به كاسوكاي ساتو، فيما ذهب لقب البطولة الرابعة عام 1987 لأكيوشي ماتسوي، وهو أحد أهم أساطير اللعبة.
يعد البرازيلي فرانشيسكو فيلهو أول بطل من خارج شرق أسيا يتمكن من إحراز اللقب العالمي، وذلك بفوزه بلقب البطولة السابعة عام 1999، فيما يعد هيتوشي كيياما آخر ياباني يفوز بلقب البطولة التي احتكر الأبطال اليابانيون أكثر من نصف ألقابها الـ11، وذلك في البطولة الثامنة عام 2003.
اختتمت في نوفمبر الماضي وقائع بطولة الدوري العالمي الحادي عشر للكيوكوشن، بفوز البلغاري زاهاري داميانوف باللقب، على حساب الفرنسي دجيما بلخوجة، فيما حل الروسي دارمين سادوكازوف في المركز الثالث.
الكيوكوشن كاي العربية
منتخب العراق للكيوكوشن كاي المتوّج ببطولة العالم للألعاب القتالية 2015
تحظى الكيوكوشن كاي بمكانة محترمة بين الرياضات القتالية الذائعة الصيت في الوطن العربي، ففي دول كلبنان، العراق، المغرب، الكويت، والأردن، يعتبر أسلوب الكيوكوشن كاي الأكثر شهرةً بين الأساليب القتالية، وهو يحظى بدعم الاتحادات الرسمية للرياضات القتالية في تلك البلدان، التي دأبت على إقامة البطولات والملتقيات الخاصة بهذه اللعبة، بعكس الوضع في بقية البلدان العربية التي يعتبر أسلوب الكاراتيه التقليدي (شوتوكان) هو الأكثر انتشارًا ودعمًا، فيما تقتصر ممارسة الكيوكوشن فيها على بعض النوادي الخاصة (غير الرسمية).
أما على صعيد الإنجازات والأبطال، فرغم امتلاكنا لأسماء ممتازة شاركت في البطولة العالمية الأهم (الدوري العالمي)، كالسوداني هاشم بدر الدين أول عربي ومسلم يشارك في الدوري العالمي عام 1975، واللبناني جمال الحايك الذي يعد أول عربي يبلغ منافسات اليوم الثالث من البطولة عام 1979، والسوري منير جركس صاحب أسرع ضربة قاضية في بطولة عام 1987، إلا أن أحدًا منهم لم يستطع إحراز مركز متقدم ضمن بطولات الدوري العالمي، ولو أن هناك أبطالًا وصلوا إلى مراحل متقدمة في بطولات عالمية أخرى، أبرزهم العراقي حيدر فياض الذي أحرز المركز الرابع في بطولة العالم للكيوكوشن كاي عام 2004، إنما في المسابقة التي تنظمها منظمة مغايرة لتلك التي تنظم الدوري العالمي، كما حقق أبطال العراق للكيوكوشن كاي المركز الأول في بطولة العالم للألعاب القتالية العامة، التي استضافتها العاصمة التايلندية بانكوك في مارس من العام الحالي، بعد فوزهم بـ 13 ميدالية متنوعة، منها 6 ذهبيات عبر الأبطال: علي عمار عدنان، إبراهيم جاسم كاظم، عامر محمد كاظم، أحمد كاظم عباس، سعيد عبد الرحيم، ومحمد إسماعيل غفوري.
أبرز الاختلافات بين الكاراتيه التقليدية والكيوكوشن كاي
صورة تبين بعض ضربات كيوكوشن كاي التي تميّزها عن الكاراتيه التقليدية
قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال وجيه حول ماهية الاختلافات بين لعبة الكاراتيه التقليدية التي أسسها فوناكوشي وتدعى (شوتوكان)، ولعبة كيوكوشن كاي التي تحدثنا عنها، حيث تتشابه اللعبتان في نواح كثيرة، كاللباس والتحية والأحزمة والاستعراضات الفردية (الكاتا)، فيما تنحصر الاختلافات الجوهرية في 3 أوجه، هي:
– الأساسيات (الكيهون): يسمح في الكيوكوشن ما لا يسمح في غيرها من الألعاب القتالية عامةً والشوتوكان خاصةً، من ضربات الكوع والمرفق والركبة إضافةً للركل بشكل مباشر، مما يجعل ممارسوها أكثر عرضةً للإصابات الخطيرة.
– أسلوب النزال (الكوميتيه): في الكيوكوشن يقترب المتباريان من بعضهما أكثر لذا تدعى (كاراتيه الاتصال المباشر)، مما يعطي عاملي الصلابة وقوة الضربات الدور الأكبر في ترجيح الكفة، فيما يبتعد اللاعبان عن بعضهما في الشوتوكان، مما يسمح بمدى أكبر من المراوغة واستعمال التكتيكات التي تعتمد على السرعة وخفة الحركة.
– طريقة الحسم: كلتا اللعبتين تعتمدان على جولة واحدة أساسية، ولكن الفرق في الحسم عند التعادل، ففي الكيوكوشن تمدد المباراة لجولات وجولات حتى يستطيع أحد المتباريين حسمها باستسلام الآخر أو بإجماع لجنة التحكيم، أما في الكاراتيه فتمدد المباراة لجولة واحدة فقط عند التعادل، يقوم الحكام على إثرها بترجيح كفة أحد اللاعبين، حتى ولو لم يتم الإجماع على ذلك، حيث تعود الكلمة الفصل لرئيس لجنة الحكام، مما يجعلها أقل عناءً من الكيوكوشن.
هذه الاختلافات الثلاثة وخاصةً الأول والثالث، دعت لتصنيف الكيوكوشن كاي ضمن الرياضات الفردية الأكثر عنفًا، مما حرمها فرصة الظهور ضمن الألعاب الأولمبية، دون أن يحد ذلك من انتشارها حول العالم، حيث يزيد عدد ممارسيها اليوم عن الـ 12 مليون ضمن أكثر من 120 دولة عبر القارات الخمس.